الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن:
اهتم اقتصاديو التنمية الأوائل كثيراً بموضوع التخطيط التنموي، والعديد منهم مارس عملية التخطيط خلال الحرب العالمية الثانية في بريطانيا بالاشتراك مع وزراء التخطيط آنذاك. كان I.M.D.Little(1) أول من درس تاريخ التخطيط والتصنيع في الدول النامية، وأشار إلى عدد من الاقتصاديين في المملكة المتحدة خلال وبعد الحرب العالمية الثانية، والذين اشتركوا لاحقاً في النقاشات المتعلقة بالتخطيط في تلك الدول. وهؤلاء الاقتصاديين هم أرندت (Arndt) وروزنشتاين رودان (Rosenstein Rodan) ومندلباوم (Mndelbaum).
والتخطيط عموماً يُعتبر ناجحاً خلال فترة الحروب البريطانية وفي الفترات التي أعقبت مباشرة تلك الحروب. لقد فشل التخطيط في الاستمرار خلال الستينات ثم اُلغي في معظم الدول المتطورة. أما في الدول النامية فقد ظل التخطيط قائماً. وعلى الرغم من التأكيد المتزايد على أهمية السوق في الدول النامية، إلاّ أن عدداً قليلاً من الحكومات كانت راغبة في التخلي عن دور التخطيط. سنحاول الآن معرفة أسباب ذلك.
كانت الهند هي الدولة الرائدة في مجال التخطيط التنموي. وقد بدأت لجنة التخطيط الهندية عملها في العام 1950 بينما أصبح التخطيط المركزي في الستينات هو عصب السياسة الاقتصادية. إن الطموحات نحو التخطيط لم تأت من نمو الاقتصاديات الغربية، وإنما جاءت من الاتحاد السوفييتي. فالنموذج السوفييتي أكّد على التصنيع وعلى الاعتماد الذاتي وخاصة في مجال السلع الرأسمالية. والتخطيط المركزي في الاتحاد السوفييتي اُعتبر ناجحاً وأصبح ذا تأثير كبير في جنوب آسيا. وفي الاتحاد السوفييتي أدّى التخطيط إلى النمو السريع في الصناعات الثقيلة وإلى صمود البلاد في وجه ألمانيا النازية.
إن إعجاب الدول النامية بنموذج التخطيط السوفييتي في الخمسينات والستينات يعود إلى الأهداف السياسية في الاستقلال والاعتماد الذاتي وإلى الرغبة في النمو الاقتصادي السريع، بالإضافة إلى الانسجام مع الرؤية السائدة آنذاك حول ضرورة أن تكون الحكومة هي الأساس في التنمية.
إن التقنيات الجديدة في النظرية الاقتصادية والإحصاء والرياضيات لعبت أيضاً دوراً في تشجيع أساليب التخطيط التنموي. إن كبار مخططي التنمية في الستينات (آرثر لويس، جات تنبرجن، آلبرت وترستون) دعوا إلى اتّباع اتجاه قصير الأجل (من سنة إلى سنتين) في خطط للاقتصاد تُراجع سنوياً لكي تدمج ضمنها المعلومات الجديدة. وكل تلك العمليات تتم تحت إشراف وكالة التخطيط الحكومية. إن الحاجة التقنية إلى اتجاه متكامل وشامل في تخطيط التنمية حصلت على الإسناد والدعم من العلاقات الهيكلية الكنزية في الاقتصاد الكلي، ومن البرمجة الخطية وتحليلات المدخلات- المخرجات.
كان الاقتصاديون قادرين على توفير الخبرة التقنية التي يتطلبها التخطيط الشامل ووضعها في خدمة المخططين (تأثروا بقوة بالنموذج السوفييتي).
لم تتبع كل الدول النامية الاتجاه السوفييتي. فأمريكا اللاتينية مثلاً كانت الأكثر بطئاً في انتهاج صيغة التخطيط الشامل. وعلى الرغم من دعوات اللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة لدول أمريكا اللاتينية باتّباع التخطيط، إلاّ أن نصائحها لم تلق الاستجابة، مكسيكو مثلاً التي كانت الأسرع نمواً في امريكا اللاتينية في الخمسينات والستينات لم تقم بأي خطط تنموية على الإطلاق. وفي معظم دول أمريكا اللاتينية كان معظم التركيز ينصب على التخطيط على مستوى المشروع project level بدلاً من اعتماد التخطيط المركزي. وفي أفريقيا السوداء وجزر الكاريبي لم يكن هناك دعم سياسي واضح للتخطيط. كانت الخطط القومية تُرسم، ولكن الفعالية الاقتصادية لم تتأثر بأي توجيه من الحكومة. فالإنفاق الحكومي ربما يُوجّه إلى مناطق محددة سلفاً، لكن المهمة الرئيسية للمخططين كانت محاولة التنسيق بين الأعداد الهائلة لقرارات الاستثمار الخاصة وقرارات الإنتاج.
وعندما لم تعد هناك رغبة قوية للتخطيط في الدول النامية، تم تشخيص عدد من نقاط الضعف التالية:
1- التخطيط مال إلى إدخال حالة من التمايز والتشوهات في الاقتصاد. القطاع العام أصبح متضخماً جداً يحتوي على عدد هائل من المشاريع المكلفة والتي تنال إعجاب وكالات التخطيط.
2- في العديد من الحالات لم تكن هناك بيانات كافية للتخطيط. ضعف الخدمات المدنية والنقص في عدد الموظفين المُدربين أدّى إلى خلق البيروقراطية وحالات من الفشل الإداري.
3- لم تكن التنمية الهدف الوحيد للحكومات. وهي لم تعمل لأجل المصلحة العامة، بل كان عليها أن تسوّي الخلافات بين جماعات الضغط. الوزراء اتّبعوا المصالح الفردية والقطاعية كجزء من التخطيط التنموي.
وبالرغم من مظاهر الفشل المتعددة للتخطيط التنموي، إلاّ انه عموماً لا يزال مقبولاً لدى الدول النامية. حيث بلغ عدد الدول التي وضعت خططاً للتنمية في الثمانينات حوالي 40 دولة ويمكن تشخيص عدد من المواصفات لخطط التنمية الأخيرة وهي ثلاث خصائص رئيسية ميّزتها عن تلك الخطط السابقة: وهي التأكيد الكبير على الزراعة، تشجيع محفزات التصدير، ثم محاولة التسوية بين خطط التنمية والأهمية المتزايدة لدور السوق.
إن معظم خطط التنمية القومية الحالية تعتمد بشكل رئيسي على المساعدات الأجنبية والدعم المالي والفني من الوكالات الدولية مثل الأمم المتحدة وبنوك التنمية العالمية. وبما أن هذه الخطط تعتمد على موافقة الأجانب فهي تبقى ذات تطلّع إلى الخارج وتتجه إلى السوق أكثر مقارنة بخطط الخمسينات والستينات.
وبقدر ما تسعى الخطط إلى تعبئة المساعدات، فإنها ستنجح في هذا الهدف حتى لو كانت أغراضها غير واقعية بالكامل.
وإذا كانت أيديولوجيا الاقتصاد السياسي في الدول النامية تتأثر بقوة بثقافة وروح التخطيط، فإن ذلك دفع الاقتصاديين إلى اقتراح اتجاهات جديدة للتخطيط التنموي لكي يصبح التخطيط أكثر فعالية وواقعية. وطبقاً لوجهة نظر البنك الدولي، فقد اقترح (Agarwala)(2) بأن على المخططين أن يبحثوا عن اتجاه استشاري وليس تكنوقراطي.
فالنماذج التوجيهية الشديدة التعقيد يجب إلغاؤها واعتماد النماذج القائمة على المعلومات والتي تسعى إلى خلق إجماع بين المنتجين والمستهلكين والمخططين كاتجاه ملائم في سياسة التنمية. إن خبراء البنك الدولي وآخرين فضلوا أيضاً اعتماد الاتجاه الاختياري selective approach بدلاً من النموذج الشامل acomprehensive model. ويرى (Sagasti)(3) ضرورة التخلي عن التخطيط القصير والمتوسط والطويل الأجل واعتماد اتجاه يركز على سلسلة من القضايا والمشاكل يجري ربطها إلى فعاليات المنظمات غير الحكومية. تعتمد الفكرة على استبدال الأسلوب الشامل والقديم للتنمية بأسلوب مختلف كلياً يرتكز على هيكل ذي تنظيم مرن يسمح للمخططين في الاستجابة بسرعة وفي جميع المستويات للبيئة المتغيرة. لا بد من تشجيع المشاركة واعتماد سلوكيات ومواقف ومهارات جديدة تعطي الأولوية للمرونة بدلاً من الحلول التقنية.
من كتاب الاقتصاد والتنمية، تأليف بربرة انجهام.
…….
الهوامش
(1) Little, I.M.D.(1982) التنمية الاقتصادية، النظرية، السياسة والعلاقات الدولية، دار باسك بوكس، نيويورك.
(2) Agarwala, R.(1983) ، التخطيط في الدول النامية: دروس من التجربة، ورقة عمل رقم 576، واشنطن.
(3) Sagasti, F.R. (1988)، «تخطيط التنمية القومية في فترات الاضطراب: اتجاهات ومعايير جديدة لتصميم مؤسسي»، التنمية العالمية، عدد 16، ص 431-48.
التاريخ: الثلاثاء24-3-2020
رقم العدد : 992