سعد القاسم- ثورة أون لاين:
في لقاء تلفزيوني طويل، توقف الفنان المعلم الياس زيات عند ثلاثة أسماء رأى أنها أدت دوراً رئيسياً في تأسيس الحركة التشكيلية السورية، ومحورها الرئيسي: كلية الفنون الجميلة.
أول هذه الأسماء الفنان المعلم محمود جلال الذي مهد لقيام كلية الفنون عندما أوفد عدداً من الفنانين للدراسة في ايطاليا خاصة، وأصبحوا بعد عودتهم أساس الهيئة التدريسية في الكلية، وكان جلال أيضاً من أوائل الفنانين السوريين الذين تولوا التدريس في الكلية منذ تأسيسها. والثاني الفنان المعلم محمود حماد الذي رسّخ هوية الكلية، والثالث الفنان المعلم فاتح المدرس الذي فتح آفاق الفن التشكيلي السوري نحو الحوار الإبداعي مع البيئة والتراث والعصر.
وقد ورد في زاوية الأسبوع الماضي على لسان الفنان محمود حماد: «إن منهج شعبة التصوير في الكلية يستند بادئ ذي بدء على تعليم الطلبة الأصول الأولى للفن، ولنقُل (تعليم) اللغة أو الألف باء، مع تعويدهم منذ اللحظات الأولى على التفكير والمحاكمة..». ومن المؤكد أن الفنان فاتح المدرس كان أحد الذين أدوا المهمة الثانية باقتدار. أما المهمة الأولى فكانت، بالدرجة الأولى، من نصيب الفنان ميلاد الشايب -ابن معلولا الأصيل، والأصيلة- ذلك الفنان والمعلم الرائع الذي منح مهنة التعليم نكهة أبوية تدوم لزمن أطول بكثير من الذي منحته له الحياة، وقد كان من أول الوجوه التي يقابلها الطلاب منذ ستينيات القرن الماضي وحتى خواتيمه، إن لم يكن الوجه الأول الذي يقابلونه. وعلى يده تعلم معظم من مروا على الكلية، كأساتذة وطلاب مميزين، كيف يمسكون بقلم الرصاص وكيف يخططون به الرسم وينقلون عن الواقع. وكثيراً ما اصطحب طلابه إلى معلولا ليتابعوا نهج الفنانين السوريين الكبار في تصوير هذه البلدة الفريدة، مانحاً إياهم معرفته وخبرته ومحبته، وكأنه يرعى أطفالاً صغاراً لا طلاباً جامعيين. والأغرب أن اعتداد هؤلاء بأنفسهم لم يحل دون الاستسلام، برضا، لحالة طفولة تشوقوا باكراً لمغادرتها.
تخطت سمعة ميلاد الشايب كأستاذ بارع حدود الكلية، حتى صار الطلاب الراغبون في الانتساب إليها يلجؤون إليه لتعلم مبادئ الرسم على يديه. وكان كثير من أساتذة كلية الفنون الجميلة يحيلون اليه الطلاب الراغبين بالانتساب للكلية حتى يدربهم. وعلى مدى سنوات كثيرة قام بهذا العمل طوعاً دون أدنى تذمر. وقد كان التدريس أحد أمرين كرس حياته لأجلهما، أما الأمر الثاني فهو رسم الأيقونات والمشاهد الدينية، فلا تكاد تخلو كنيسة دمشقية أو في ضواحي دمشق من عملٍ، أو ربما أعمالٍ موقعة باسمه. وهذان الأمران هما ما جعل اسمه يغيب عن الذاكرة حين الحديث عن الفن التشكيلي السوري، رغم امتلاكه لتجربة عالية الأهمية، وأعمالاً (رغم ندرتها) على سوية فنية وجمالية مرتفعة. عاصر ميلاد الشايب، المولود عام 1918، توفيق طارق، رائد الفن السوري، ورسم معه. وفي سن الثامنة عشرة نال جائزة برونزية من معرض عام 1936 الذي أقيم في مبنى وحدائق ثانوية التجهيز الأولى بدمشق (حالياً ثانويتا جودت الهاشمي، وابن خلدون)، بمناسبة الإفراج عن المبعدين السياسيين الوطنيين والسير في طريق الاستقلال، وكان أكبر معرض عرفته المدينة قبل معرضها الدولي، وعُرضت فيه بعض المصنوعات المحلية وبلغ عدد زواره 500 ألف زائر. وقد نال ميلاد الشايب الميدالية عما سمي في ذلك الوقت بصناعة “الرسم اليدوي”، لأن المعرض أساساً كان معرضاً صناعيا أُلحقت فيه الفنون. درس الفنون في معهد (سوريكوف) بموسكو وتخرج فيه عام 1965. وفي عام 1968 نال جائزة الدولة التشجيعية من المجلس الأعلى للفنون والآداب. وتكريم رئيس الجمهورية مع الفنانين الرواد بميدالية ذهبية تقديرا لعطائه المميز عام 1996، وكرمه البطريرك أغناطيوس هزيم بوسام النجمة الفضية.
في عام 1981 أقامت مجموعة من الطلاب إثر تخرجهم معرضاً في المركز الثقافي السوفييتي بدمشق تحت عنوان :(تحية إلى ميلاد الشايب) افتتحه الفنان فاتح المدرس وكتب في تقديمه: “شاهدت ابتسامته؟.. إنها حزينة، بريئة، ساخرة.. لكن هل شاهدت قلم الرصاص وكيف يرقص في يده؟.. إنها رقصة زمن الحضارة في قلوب الفنانين الكبار أمثال فنان معلّم.. فما أروعه من فنان معلّم..”.