ثورة أون لاين -غصون سليمان:
تعتبر العمارة بشكلها العام منتجا إنسانيا ذات وظائف حياتية وابعاد جمالية ودلالات اجتماعية وتاريخية واقتصادية فهي غلاف الحياة الإنسانية ومحيط للذاكرة وموئل لها ،إذ تعكس صور الشعوب ومفاهيميها و تجاربها فالاحياء من وجهة نظر المخرج والباحث الدكتور لطفي فؤاد لطفي هي تجمعات سكنية تؤمن المحيط المادي لشعور الفرد بالأمان وتصب كلها على عصب المدينة المركزي ، كما لوحظ انعدام الفروق الشكلية في تصميمها كوحدات عمرانية ، ولكن الجديد فيها المرونة في التوسع عبر المركز المتحرك ، “السوق ” الذي يشكل عصب المدينة ويشير الدكتور لطفي في كتابه التاريخ المعماري والعمراني لبلاد الشام للفترة ما بين ١٩١٨ – ١٩٤٦ أن بلاد الشام تعد وحدة حضارية قديمة خبرها وعرفها المجتمع الانساني منذ زمن يعود لما قبل التاريخ ، فالوثائق والعمائر والفنون والاعتقادات أكدت وجود هذه الوحدة المؤسسة على أبعاد جغرافية واجتماعية واقتصادية وتاريخية واحدة أدت إلى وحدة في المصالح والحياة.
ويذكر الباحث لطفي في استنتاجاته حول قرائته التاريخية أنه عندما استلمت جيوش الاحتلال المتعددة الحكم في بلاد الشام إثر الحرب العالمية الأولى كان أول اهتمامها تأمين خطوط الاتصال وإيجاد قاعدة بحرية على الساحل الشرقي للبحر تضمن تثبيت الوجود والنفوذ في الشرق العربي .
كما وضعت معظم الأبنية العامة لوظائف الإدارة العسكرية للاحتلال ، إضافة إلى تأثر النسيج العمراني للمدن بالأغراض العسكرية المتواثقة مع النظريات التصميمية الأوروبية كفتح الشوارع العريضة بالتزامن مع تطبيق نظام البناء الفرنسي عام ١٩٣٠ ويوضح المؤلف كيف لوحظ أن المعماريين الأوروبيين اعتمدوا أساليب مختلفة في العمارة وفقا لوظائف المباني ووفق تصميم تتكرر عناصره المعمارية ذات المقياس الواحد حسب أنظمة البناء الأوروبية ، مثل العناصر المكملة للواجهات كالنوافذ والأبواب والزخارف الحجرية والشرفات وغيرها التي أبرزت تأثيرها بعمارة “الروكوكو والباروك” المتأخر لإغناء الواجهات بتبني منحى جديد في العمارة يعتمد على احترام التأثيرات البيئية والتعامل مع التطورات المعيشية الجديدة ، وإيجاد بدائل للبناء التقليدي معتمدة على تقنيات البناء الحديث ومستعملة مواد معاصرة أدت إلى تغيير ألوان الطرز والنماذج المحلية .
اي ان العصرنة والتحديث كانتا سمتي الرحلة الانتدابية في جميع بلاد الشام . اسكندرون ، أنطاكية ، حلب ، بيروت ، دمشق ، القدس .
وقد اعتمد الباحث لطفي في بحثه على ثلاث فصول: تضمن الأول منها مصطلح بلاد الشام والتحديد التاريخي و الجغرافي لها والمسألة الشرقية والصراع على النفوذ فيها ،فيما تضمن الفصل الثاني التاريخ التطورات المعمارية لهذه البلاد والعمارة وتنظيم العمران في زمن الانتداب ،وتحدث الفصل الثالث عن أشكال العمارة وخصائصها في كل من المدن التي ذكرناها آنفا اسكندرون ، أنطاكية ، بيروت ، حلب ، دمشق والعمارة الفلسطينية في كل من القدس ورام الله ونابلس.
ومما تضمنته بعض عناوين الكتاب يشير الباحث إلى دور المهندسين الأوائل وتأثيرهم في العمارة،حيث تزامن مع بدء الانتداب عودة عدد من المهندسين الذين كانوا يدرسون في اوروبا،والذين ساهموا في إدخال فن معماري قائم على قواعد فنية وأساس من الحداثة لم يكن معروفا من قبل،تجلى فيه الفن المعماري الأوروبي الحديث،وقد تأثرت هذه المدرسة في بداياتها بروك الشرق فظهرت اتجاهات ،هدفها الأول إحياء التقاليد الفنية القديمة وتطويرها من حيث الفنون العربية والزخرفة التي تزين بعض المباني كمبنى المجلس النيابي، ومبنى مؤسسة مياه عين الفيجة في دمشق،فيما هدف العامل الثاني إلى خلق نهضة فنية على يد المدارس الفنية الأوروبية، فكان انتاجهم ،صدى لما يجري في العالم الخارجي من تطور لايعبر عن انتاج محلي،مثل أحد المباني في ساحة النجمة، وبيت مزخرف في القنوات.
ويلفت الباحث لطفي أن مدن بلاد الشام جاءت كما كتب جان بول باسكوال في كتابه”دمشق،بيئتها ووظائها العمرانية”مدن منظمة محققة نوعا من التوازن في بنيتها،ولم تبن كمدن ذات تخطيط فوضوي ،كما حاول بعض المستشرقين إبرازها.