في صباح ذلك اليوم من عام 2001 ، تلقيت اتصالاً هاتفياً عرّف فيه المتحدث عن نفسه بأنه من مكتب رئيس جامعة دمشق، وتمنى علي الحضور إلى اجتماع في الساعة الثانية ظهراً. كان اتصالاً غريباً إلى حد ما، فمن جهةٍ كانت الدعوة إلى اجتماع سيعقد بعد بضع ساعات أمراً غير مألوف، ومن جهةٍ ثانية لم تكن لي أي علاقة بجامعة دمشق منذ حصولي على دبلوم الدراسات العليا من كلية الفنون فيها قبل أربع عشرة سنة من ذلك اليوم.
في الموعد كان هناك تسعة من خريجي كلية الفنون الجميلة معظمهم من المدرسين في الكلية، وعرفنا في تلك اللحظة فقط أننا لجنة تحكيم امتحان القبول للكلية، وأن هناك ثلاثة أعضاء آخرين لم تنجح محاولة الاتصال بهم. كان واضحا في تلك اللحظة حرص رئاسة الجامعة على سرية اللجنة، وعزلها عن أي شيء يمكنه التأثير في قراراتها. وهو ما بدا جلياً في حديث الدكتور هاني مرتضى – رئيس الجامعة يومذاك- الذي أبلغنا أننا سنبقى في المبنى حتى إصدار النتائج، وقبل ذلك لا يمكن لأي منا الخروج، أو إجراء أي اتصال هاتفي، وأنه بإمكاننا الآن فقط استخدام هاتف الجامعة للاتصال بعائلاتنا وإخبارهم أننا قد لا نعود قبل الفجر، وهذا ما حدث فعلاً.
لم تكن دماثة الدكتور مرتضى وحدها ما جعلنا نتقبل هذا الحَجر بسهولة، وإنما، وقبل ذلك، طبيعة المهمة التي كَلَفنا بها وهي قبول جميع المتقدمين المؤهلين. وسبق ذلك حديث صريح عن مشكلةٍ كانت منذ سنوات عديدة موضع شكوى، وتتلخص في قبول طلاب قليلي الموهبة على حساب طلاب موهوبين ومؤهلين. لذلك ختم حديثه بالقول: اختاروا الطريقة التي تضمن قبول الأفضل فنياً، واتخذوا قراركم دون العودة لأحد. ونحن كرئاسة جامعة وعمادة كلية سنكون مراقبين فقط، ولن نتدخل بأي شيء من توجهاتكم وقراراتكم.
كنا نعلم أن الأمر لا يتعلق بالمحاباة وحسب، وإنما بنظام مسابقة القبول الذي يعطي مجموع علامات الشهادة الثانوية دوراً مؤثراً، حيث يمكن أن يحصل طالب غير مؤهل لدراسة الفنون على علامات عالية، والعكس بالعكس، مما يؤدي إلى قبول الأول واستبعاد الثاني، فتكون الخسارة مضاعفة. ولذلك اخترنا أن نفرز أولاً أوراق الامتحان إلى أربع فئات حسب جودتها، ونعطي أوراق الفئة الأولى الأكثر جودة علامات شبه تامة، وبفارق كبير عن الفئات التالية، بما يضمن قبول أصحابها في الكلية، بصرف النظر عن العلامات التي نالوها في الشهادة الثانوية.
مع الانتهاء من فرز بضعة آلاف من الأوراق، توفر لدينا نحو ثلاثين ورقة بالفئة الأولى، أعطيناها، حسب تمايزها، تسعين أو خمساً وتسعين علامة. وللطرافة نالت الورقة قبل الأخيرة علامة الخمس وتسعين، وحين عُرِضَت الورقة الأخيرة كانت أفضل منها فقال أحد أعضاء اللجنة بما يشبه الاحتجاج: لقد تسرعنا بإعطاء الورقة السابقة خمساً وتسعين، الآن ماذا سنعطي هذه الورقة؟ فأجابه آخر بهدوء: نعطيها مئة، هذه مسابقة قبول وليس امتحان تقييم. وحصلت الورقة الأخيرة على العلامة التامة، وتبين عند كشف الأسماء أنها لفتاة لم يعرفها أحد منا، ومع ذلك فما ان أُعلنت النتائج حتى شاعت الأقاويل عن محاباة اللجنة لها، لكن القدر كانت له إرادة مختلفة. فقد تبين أن الطالبة ذاتها كانت قد تقدمت أيضاً إلى مسابقة القبول في كلية العمارة، ونالت فيها علامة شبه تامة، واختارت الدراسة فيها..
لم يدخل طالب إلى كلية الفنون بالعلامة التامة سنتها.. لكن طلاباً تخرجوا فيها بالعلامة التامة في سنوات غيرها. والحديث عن مسألة القبول في الكلية لم ينته بعد..
إضاءات- سعد القاسم