الملحق الثقافي:سلام الفاضل:
قال يوماً أحد الكتّاب الكبار ما معناه إن المضامين الاجتماعية والإنسانية للقصة موجودة بكثرة في حياتنا، وحيث ما التفتنا وجدنا مشكلات وقضايا فردية وعامة؛ لكن الفنان المبدع ليس هو فقط من يلتقط بعناية وتبصر هذه المضامين والمشكلات، بل هو من يعبر عنها بطريقة فنية أحسن تعبير.
وفن القصة في سورية تطور كثيراً ولم يعد همه يقتصر على معالجة القضايا الاجتماعية والإنسانية فحسب، بل صار يركّز على تطوير أساليبه الفنية، مستعيناً بالتجارب الإبداعية العالمية وما أثمرته وطرحته بعض تقنيات المدرسة السريالية والرمزية ومدارس أخرى منوعة، إضافة إلى الكثافة الشعرية العالية، مع استثمار واسع للفنون المجاورة كالتشكيل الفني والقطع السينمائي، وغيرها.
وللإبحار أكثر في لجة مفاهيم هذا الموضوع، والإضاءة على جوانب بعينها منه تمتد فصول كتاب (مقالات في القصة السورية)، تأليف: مؤيد جواد الطلال، الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، تمتد على مسافة زمنية مديدة تعبر عن مرحلة الريادة في القصة السورية ممثلة ببعض أعمال الرائد المبدع «د. عبد السلام العجيلي»، وممتدة إلى الأعمال القصصية فقط من أعمال الكاتب الكبير «حنا مينه»، وكذلك نماذج قصصية من إبداعات الفنان المُجّد «وليد إخلاصي»، مروراً بنموذج من القصاصين السوريين الذين استلموا راية الخلق والإبداع من جيل الرواد أمثال القاص «عزيز نصّار».
أسلوب فني مبتكر
إذا كان بعض القصاصين العرب قد التجأ إلى الماضي يستثمره ويستنطقه ويعيد زوايا النظر فيه كوسيلة تجديد وتغيير، أو كمحاولة للهرب من مقص الرقيب، فإن قصة «زقاق أبي كرشة» للقصاص عزيز نصّار ظلت عند حدود التاريخ المعاصر، وإن امتدت مساحتها لربع قرن، صوّر خلالها نصّار التحولات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع السوري، من ناحية الجوانب الأخلاقية خاصة.
في هذه القصة قلب القاص المعادلة، ولم يجعل لقصته شخصية محددة الملامح، بل جعل «الدكان» البطل أو الشخصية المحورية، وراح يسرد على لسانه، ومن خلال رؤيته للأمور، صور تلك التحولات الطارئة؛ فحقق نصّار بهذا أهدافاً عدة، أهمها التجديد في الأسلوب، حيث إن السارد هنا ليس بطلاً أو كائناً محدداً – بل حيادياً كما لو كان مرآة عاكسة تعكس ما تراه وما تصوّره؛ إلى جانب خلقه أسلوباً فيه الكثير من الجِدة، والتميز، والابتعاد عن التقليدية من خلال البحث عن أساليب فنية جديدة ومبتكرة في التعبير القصصي.
تناقضات الحياة
تنتمي قصص د. عبد السلام العجيلي إلى ما يمكننا أن نطلق عليه مجازاً اسم الواقعية النقدية الجديدة؛ وفي قصة «الحاجان» إحدى قصص مجموعته «حكاية مجانين»، التي تدور أحداثها في البرازيل نجد ثمة خيطاً متيناً يربط قصص العجيلي بقصص كاتب البرازيل الأول «جورج أمادو»، ليس من حيث الأجواء الشعبية البرازيلية المشتركة وطريقة انتقاء الحالات والمفارقات والصور الرائعة المفعمة بروح إنسانية ذات دلالات أيديولوجية فقط، بل وفي طريقة الأداء والتعبير أيضاً.
فـ «الحاجان» قصة سياسية اجتماعية قصيرة مركّبة من ثلاثة فصول، يسعى خلالها المؤلف، وعبر تحريكه خيوط القصة إلى التأثير الروحي، وتوصيل قضيته المركزية – القضية الفلسطينية – بطريقة تركيبية بديعة إلى ذهن القارئ أولاً ثم لتشق طريقها فوراً إلى قلبه، وعلى الرغم من أن القاص اختار الرؤية الدينية التقليدية في محاربته العدوان الصهيوني، غير أنه اختار وسيلة فنية رائعة لتجسيد تلك الرؤية وتحويلها إلى منطق إنساني وثوري، أبرزَ موهبة العجيلي، وفسّرَ سر نجاح هذه القصة المعتمدة على التوليف والتركيب الفني والسينمائي، بقدر ما تعتمد أسلوب التحليل الفلسفي والنفسي.
الرمزية والإبداع
لقد اختار «وليد إخلاصي» في قصصه أقصر السبل، وأخفض الأنغام للتعبير عن الشيء الذي لا يمكن التعبير عنه، كاختياره الحوار مثلاً، الذي لم يتجاوز حجمه، مع مقدمته التمهيدية ونهايته التقريرية، الصفحة الواحدة، ولكنه لخّص أكثر الأزمات العربية استعصاء؛ وبهذا استطاع القاص أن يجدد معجزة الخلق الأزلية من البسيط إلى المركب، ومن البدهي إلى المستعصي، في أقل عدد من الكلمات، وفي أبسط صيغة لغوية، وفي أكثر الإيقاعات خفوتاً وحزناً وتأثيراً.
ففي مجموعته القصصية «الدهشة في العيون القاسية» اعتمد إخلاصي في العديد من قصصها الوسائل التعبيرية الحادة، الرمزية حيناً والمباشرة أحياناً أخرى، مع التشبيهات والاستعارات الصورية الصادمة؛ من أجل خلق الجو المناسب في روح وذهن القارئ، ولتحرك في أعماقه أشد الأوتار حساسية ورهافة، ولتنتزع منه صرخة الغضب والاستياء انتزاعاً.
الكثافة الشعرية
تتجسد الصور الشعرية في أدب «حنا مينه» أكثر فأكثر في قصصه القصيرة، إذ ترق لغته وتصفى، وتتخلص جمله من الإيقاع الصاخب ومن الزوائد، وتصبح أكثر ألفة وشاعرية، فيكثف عبر ذلك تجربته الإنسانية العميقة، ويبلور مشاعره المتعددة والمتضاربة أحياناً.
وتظهر هذه الخصائص الفنية جلياً في بعض قصصه، ومنها قصة «رسالة من أمي»؛ هذه القصة التي تتخذ شكل رسالة تمليها أم الكاتب على ابنة أخته الصغيرة «هيفاء»، يحاول القاص من خلالها الكشف عن عوالم ثلاثة، هي: عالم الأم، وعالم البنت الصغيرة «هيفاء»، وعالم الكاتب، بحيث تتداخل العوالم الثلاثة في لغتها ومنطقها وأحاسيسها حتى تكاد أن تخلق عالماً واحداً خيالياً صرفاً، نقياً وشفافاً حد العدم واللاوجود.
وقد استطاع الكاتب في هذه القصة ومن خلال استغلاله التجربة الإنسانية والخيال الشعبي، وتنقية المفردات – استطاع تحويل نثر الحياة العادي، اليومي والمباشر، إلى صيغ شعرية مكثفة، نابضة بعمق التجربة، ومفعمة بالرائحة الإنسانية، حتى غدت هذه القصة عبارة عن لوحة فنية حية ورائعة.
التاريخ: الثلاثاء28-4-2020
رقم العدد : 996