ثورة أون لاين-غصون سليمان:
في شهري حزيران وتموز يبدأ موسم الحصاد بعد جفاف السنابل واكتمال نضجها حتى تصبح داجنة حيث يعتبر الحصاد من الأعمال الشاقة التي يقوم بها المزارع، ولكن لهذا الموسم خصوصيته وبهجته في الذاكرة حيث تتحضر الأسر والعوائل الريفية إلى تهيئة معدات الحصاد من مناجل و(قالوشات) وهي اداة للحصاد اصغر من (المنجل) و مسنات حديدية التي يحتاجها المرء لسن شفرة المنجل كلما ثلمتها سوق السنابل بمرور الوقت.. وموسم الحصاد هذا لا يفرضه فقط نضج القمح بل تفرضه ايضا حرارة الشمس ومن ينوي الحصاد لا تفيد برودة الصباح او لطافة وقت الغروب لان سوق الزرع تغدو في تلك الاوقات لينة ما يصعب حصدها نظرا لتشبعها بالرطوبة، لذلك كان الحصاد يتم في أشد ساعات النهار حرارة كي تكون السوق يابسة يسهل جذبها وقطعها.. وتشير الأديبة فريال سليمة الشوكي في كتاب الزمن السعيد (تراثنا الساحلي الريفي الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب) انه لم يكن وخذ السوق الابرية تحت قدمي الحاصود كما كان يسمى هو الهم الوحيد، ففي الزرع تختبئ من حرارة الشمس بعض الزواحف من افاع وسواها مما يتوقع المرء أن يدوسه في أي لحظة.
وبما أن أراضي الحصاد تكون عادة خالية من الأشجار حيث يجود الزرع ويغدو افضل لذلك يعاني الحاصود من شدة الحر الذي يتقيه وقت الراحة بتثبيت عصا طويلة في الأرض يربط في أعلاها قميصا او شرشفا ليقيه الحر ، فيميل مع ظله حيث يميل كي يجنب دم رأسه الغليان. ورغم كل ذلك العناء يسمع صوت الحصادين وصدى اصواتهم ومواويلهم واغانيهم ، يلحنها حفيف الزرع وتصادق على قيمة قائليها أسراب طيور الدوري التي تتغذى على الزرع وتطير رفوفا فوق رؤوسهم تبارك جهدهم ، وتثني على تحملهم ومثابرتهم على حب الأرض والالتصاق بها ،وتبارك الأيدي التي يدميها التعب وتوسعها السنابل والمناجل جروحا يضمدها الرضى بما قسم الله للإنسان.
و موسم الحصاد لا يقتصر على فعل الرجال فقط وإنما على النساء ايضا، فالمرأة لم تكن بعيدة عن القيام بعملية الحصاد المرهقة إلى جانب أهلها وزوجها وعائلتها حين تقتضي الحاجة ذلك.
ومن عادات الحصاد التي كانت سائدة في الماضي هو مساعدة أهل القرية بعضهم بعضا نظرا لقسوة الحصاد والرغبة في إنجازه بأسرع وقت ممكن والتشجيع بينهم كما يقال بعبارة “اشمالك “والشمال أو” الشميل “هي ربطة كبيرة من سنابل القمح، وبالتالي كل شخص يقال له اشمالك يجب ان يقوم بالحصاد، واذا رفض كأنه بذلك يرفض مساعدة جيرانه وهذا ما يعتبر عيبا في وقت اتصف الناس فيه بحب التعاون والمؤازرة وتلبية نداء المغلوب، وبعد الانتهاء من موسم الحصاد يتم نقله إلى البيدر بواسطة الإنسان و عن طريق بعض الحيوانات كالحمير والجمال والتي كانت فيما مضى سيارات تلك الأيام وليس سفينة صحراء، فقط حيث يتوسع زرع البيدر عادة على أرض مستوية قليلة الحجارة وقد يكون أحيانا أرضا مستوية لتستوعب أكوام القمح الكثيرة حتى يحين موعد درس الحبوب بالوسائل اليدوية المتوفرة.
هي بعض الذكريات عن ماض جميل رغم كل الفقر والتعب وبساطة الحياة لكن يبقى لطعمها ولونها شيء مختلف.. اليوم مع تطور أنماط الحياة المختلفة وحدوث تغيرات جذرية طالت جميع مستويات العيش فغدت التقنية والأدوات الكهربائية والآلات من حصادات وجرارات وشاحنات بأحجام متنوعة توفر على الفلاح الجهد الكبير في استثمار وحصاد سنابل القمح لمساحات شاسعة من أرضنا الطيبة.
وإذا ما عدنا إلى خصوصية القمح السوري نجد أنه من أجود الانواع والأصناف عالميا.. وهو اليوم الضحية الأولى في عيون المرتزقة والمجرمين والإرهابيين الذين عاثوا فسادا وحرقا وقتلا وسرقة لكل شيء على مدى عشر سنوات من حرب عدوانية لم تترك أدنى شروط أو حدود لأي معايير أخلاقية وإنسانية بحق الشعب والمجتمع السوري، الذي كان ومازال وسيبقى يواجه كل ماهو طارىء على حياته وثقافته وقيمه.
السابق