الملحق الثقافي:ديب علي حسن:
اللغة بيت الفكر ومصنعه لبوس الأفكار التي لا يمكن لها أن تحلق إلا بجناحي اللغة. من هنا كانت موضع اهتمام الدارسين والباحثين، وهي ليست مجرد كلام ومفردات أبداً.. فهي الفلسفة والشعر والفكر ومنها المصطلح الذي يختزل مفهوماً ما..
وقديماً قيل من تعلم لسان قوم أمن شرهم.. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن اللسان يعبر عما يفكر ويعمل به قوم ما.
من اللسان كانت المصطلحات التي تحولت في عصرنا الحالي إلى سلاح فتاك يغزو الآخرين قبل غزو المدفع والطائرة، يروج لما يريده مبتكروه ومعدوه يحمل رسائلهم وتوجهاتهم.
المصطلح كما هو ابن اللغة التي هي ابنة الحياة وكلاهما يضعهما ويصنعهما القوي، فمن يبتكر شيئاً ما، هو من يختار اسمه ويروح له، وكما قيل من ينجب الصبي يختار له اسمه.
فالأمة، أي أمة، لا يمكن للغتها ومصطلحاتها أن تسود وتنشر إلا عندما تولد الكثير من الأفكار والصناعات وتكون فاعلة في المشهد الإنساني فكراً وصناعة واجتماعاً وفناً وتقدم المفردات والمصطلحات.
فالثورة الصناعية وما تبعها من ثورات أخرى معرفية حفلت بملايين المسميات والمفردات والمصطلحات التي روجتها من مصطلحات الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماع وإلى ما في القائمة. وجاء الفضاء الأزرق ليضيف ملايين المصطلحات التي على ما يبدو أن قسماً كبيراً منها ليس بريئاً أبداً.
حروب المصطلحات
هي حروب مصطلحات، حقيقة لا شك فيها، ولكن لماذا هي كذلك، ومن يشحن المصطلح بدلالته التي يفهمها كل منا كما يحلو له؟ بل السؤال: هل فعلاً كما يحلو له أم ضمن سياق يمضي عليه وفق ثقافته وتفكيره؟ أسئلة كثيرة يجب أن تطرح حتى يحدد سياق المصطلح وتوجهاته مثلاً: من يحدد معنى الإرهاب؟ وكيف؟ ولماذا يأخذ العالم بتعريفه كما تقرره الولايات المتحدة الأميركية على الرغم من أن المصطلح لا يحمل أياً من معاني الإرهاب الذي يقرره الأميركيون وفق مصالحهم؟ فكل عمل مهما كان، إذا كان ضد الهيمنة الأميركية وبلطجتها فهو إرهاب عندها!
بل ماذا يعني احترام حقوق الإنسان؟ وكيف نفهم ذلك، ومملكة الرمال بالمنشار تعاقب؟ وكيف تكون عضواً في مؤسسات أممية يفترض أنها تعمل على صون واستقرار الإنسانية وضمان الحقوق؟ من يقرر ذلك؟ أليست القوة الغاشمة التي تصول وتجول وتحرك العالم كما يحلو لها؟
ومن ثم ماذا تعني مثلاً حرية الإعلام؟ هل هي التفرقة الدينية والإثنية وزرع بذور الشقاق والنفاق والعمل بث الأكاذيب في كل مكان؟ هل هذه حرية؟ وهل ما تقوم به وسائل التواصل الاجتماعي (المغرضة والموجهة ضد الشعوب) هل هي حرية إعلام، وكيف؟
المصطلح المفهوم والدلالات لا يتحدد بين ليلة وضحاها، إنما ثراء الدلالة يأتي وفق سياق الثقافة والمجتمع والخلفيات التي ينطلق منها المتلقي، بل ومنتج المصطلح، وهذا يعني أننا في معركة فكرية وثقافية لن تنتهي إلا بسيادة الأقوى منطقاً وفكراً.
براءة المصطلح
بل السؤال: متى كان المصطلح بريئاً تماماً؟
واليوم في هذا الكون الكبير جداً مساحة والصغير من خلال التواصل الفوري والسريع، ما الدور الذي يمارسه الإعلام في انبجاس معنى المصطلح؟ وكيف يروج له بوصفه سلعة فكرية عليا تحمل مضموناً يراد له أن يصل إلى مكان ما غايته استعمار العقل قبل استعمار الأرض؟ وحين تستعمر العقل فأنت ضمنت ديمومة البقاء والقدرة على التحكم.
عالم اليوم هو عالم صراع الأفكار، والمصطلحات هي المادة الخام للفكر.. والإعلام دون شك الحامل الأساس والمروج للفكر وممهد الطريق لاستعمار الشعوب واستلابها من خلال ما سمي بجيل الحروب الجديدة الجيل الرابع أو الخامس وغيرهما.
وقد بين نغوجي واثيونغوجي في كتابه المهم الصادر عن دار التكوين بدمشق ترجمة سعدي يوسف تحت عنوان «تصفية استعمار العقل» بيّن كيف أن السيطرة على شعب ما اقتصادياً لا يمكن أن تتم وتكتمل دون السيطرة الثقافية، وهنا تكون الممارسة الأدبية بغض النظر عن اي تفسير فردي، ومن ثم فإن الجامعات والكليات التي أقيمت في المستعمرات بعد الحرب كان المقصود منها إنتاج نخبة محلية تساعد فيما بعد على دعم الإمبراطورية.
ويضيف في مكان آخر في الكتاب أنه في القارة السمراء شرع المرء يعرف أن قوته –الاستعمار- لا تكمن إطلاقاً في مدافع الصباح الأول، ولكن فيما تلا المدافع، هكذا خلف المدافع كانت المدرسة الجديدة.. كان للمدرسة الجديدة طبيعة المدفع والمغناطيس معاً، من المدافع أخذت كفاءة السلاح المحارب، لكنها خير من المدفع جعلت الغلبة دائمة.. المدفع يرغم الجسد والمدرسة تدهش الروح.. واللغة كانت أهم وسيلة أدهشت فيها تلك القوة الروح وسجنتها. كانت الرصاصة أداة الإخضاع الجسدي، أما اللغة فكانت أداة الإخضاع الروحي.
الإعلام وانبجاس المعنى
إذا كان الأدب أداة الإخضاع الأكثر رسوخاً، كما يقول نغوجي، فماذا عن الإعلام جناح وحامل كل شيء اليوم؟ جان بوديار في كتابه «المصطنع والاصطناع» يرى أن شاشات التلفزة وأثير الإذاعات وباقي وسائل الإعلام لا سيما العنكبوتية.. تشكل بتداولها معالم ملزمة إلى حد ما، فيها من يكيف المشاهد رغباته ويستثمرها، يتبنى المشاهد المتلقي الرموز ويدرجها في جهازه النفسي/ السلوكي بحيث تشكل هذه الرسائل والرموز المعممة بالإعلام طريقة المشاهد في علاقته مع نفسه والآخرين والحياة. فما يحصل بالتالي هو أن الإعلام يكيف الناس ويدفعهم ليندرجوا في النماذج القيمية والسلوكية التي يخلقها ويطرحها في التداول.
وعليه يصبح المجتمع المشهدي هو تحويل المشهد إلى واقع، فالمشهد هو الذي يكيف الواقع وفق نمط مشهديته، وهذا ما يؤدي إلى إفراغ تدريجي للواقع من واقعيته أو تصحير الواقع.. ومهما يكن من أمر فنحن نعيش اليوم في مجتمع كيفه الإعلام وفق رموزه وشيفراته المشهدية، وأخطر ما في الأمر أن الإعلام اقتحم الحياة الخاصة الحميمة للناس ففرضها شيئاً فشيئاً وأحل مكانها نمطية وفق تكييف مسبق.
التاريخ: الثلاثاء23-6-2020
رقم العدد :1003