ثورة أون لاين -هفاف ميهوب:
“بعد أن كافح الإنسان في الماضي كي لا يتحوَّل إلى عبد، عليه أن يناضل كي لا يتحوَّل إلى آلة”..
إنه ما قاله الألماني “إيريك فروم” فيلسوف علم النفس والاجتماع، وما اقتبست منه عنواناً يحذّر من الواقع الذي باتت تعيشه مجتمعاتنا، بعد أن صاغت حياتها، بالانصياع لحداثتها.
الانصياع إلى ما يريد “الآخر” أن تكون عليه، لا كما يفترض أن تكون بثقافتها وإرث تاريخها الذي تجردت منه بعد أن أشاحت عنه ،ولاتنوي العودة إليه.. الانصياع أيضاً، إلى دمار التلوث والتسلح والحروب والعبث العلمي، وإلى الأزمات والكوارث والأوبئة والانحلال الأخلاقي.
هذا ما بات يشغل تفكيرنا ويقلقنا، بعد أن انقاد عالمنا إلى عالمٍ برمجه بشكلٍ تقنيٍّ – كوني، وقيده ضمن فضاءٍ الكتروني.. عالمٌ جرده من إنسانيته وعقلانيته وهويته، وحوله إلى أداة لخدمة رأس المال الذي يهدف إلى السيطرة على موارده ومعارفه، مثلما إلى إحداث قطيعه بينه وبين إرثه وتقاليده وقيمه وثقافته.
كل هذا من فعلِ العولمة التي أخضعت العالم لأفقها المهيمن ومشروعها الرقمي، والتي استعبدت الإنسان لخدمة القوى المسيطرة على كلِّ عقل ووعي فكري.
إنه ما أطلق عليه “إريك فروم” “استلاب الإنسان” الذي يصبح مستغلاً للإنسان الآخر، بل مدمراً له ولنفسه في الوقت ذاته، والسبب الحرمان من الوجود والكينونة والانسياق وراء الوفرة والتقنية وجنون الاستهلاك، وهو مايحيله إلى مادة أو شيء مفرغ من كلّ أبعاده الروحية والذهنية والوجدانية.
حتماً هناك حل لدى “فروم” وهو إعادة خلق الإنسان برده إلى جوهر كينونته، وإلى “حب الحياة” حيث الخلاص من الاستلاب الذي أفقده جوهره، وحيث اكتماله بالحياة والخلق والابتكار، ذلك أنه يرى بأن من يسعى للدمار: “الإنسان الذي لا يستطيع الخلق، يقوم بالتدمير”.
إنه أيضاً، ما كان الكاتب والفيلسوف الفرنسي “ميشيل فوكو” قد حذر منه في حديثه عن “موت الإنسان” وإعادة خلق إنسان جديد في ثقافته ومبادئه وقيمه ووعيه النهضوي، ودون أن يدري بأنه سيأتي يوم، لن ينتج فيه هذا الإنسان سوى العجز والتردي والتبعية للشرِّ الكلي.
لاشك أنه مايجسد “تاريخ الجنون” الذي عاصره ونعاصره، فها نحن نستدعي ورغم العولمة التي يفترض أن تقودنا إلى أرقى درجات التطور العقلي والإنساني والاجتماعي.. ها نحن نستدعي من أقواله، ما يجسد غرق عالمنا بجنونِ شروره:
“الجنون شيء آخر غير كونه بؤرة للشر والفساد، ولكل العيوب ولكل الاعتداءات على الاخلاق. في تركيبته يندرج كل ما سمعناه ورأيناه وكل ما تأملناه وفكرنا فيه.. داخله تحيا الصور القديمة، وتحيا من جديد الأحقاد التي كنا نعتقد أنها انتهت إلى الأبد، وداخله تصبح الميول أكثر حدة، فالأفكار في اختلاطها تشبه حروف مطبعة يتم تجميعها دون غاية ودون ذكاء”