تعد سورية من أولى الدول العربية التي عاشت الحياة البرلمانية والممارسة الديمقراطية من حيث حرية العمل السياسي والتعبير والاعتقاد وتداول السلطة وغيرها من آليات الديمقراطية وكان المؤتمر السوري الذي التأم عام 1919 أول مظهر من مظاهر الحياة البرلمانية بعد الاستقلال عن الدولة العثمانية، وضم ممثلين من المملكة السورية أي سورية السياسية راهناً ولبنان وفلسطين والأردن، ومع تعرض سورية للاحتلال الفرنسي عام 1920 تعطلت الحياة البرلمانية وتركز النضال السياسي على تحقيق الجلاء وطرد المستعمر الفرنسي وإعادة الحياة الدستورية، ولم يتحقق ذلك فعلياً إلا بعد عام 1946 حيث عادت الحياة البرلمانية للبلاد وتمت انتخابات رئاسية وبرلمانية منذ عام 1947 وإن شابها بعض التعطيل بفعل الانقلابات العسكرية المتكررة، ثم ما لبثت أن استقرت بعد دستور 1950 حيث نشطت العديد من الأحزاب السياسية بأيديولوجياتها المختلفة إضافة لصدور العشرات من الصحف ووسائل الإعلام المختلفة الأخرى، إضافة لممارسة حق التظاهر وغيره من أشكال الحرية، واستمر ذلك حتى قيام الوحدة السورية المصرية عام 1958 حيث تم تشكيل برلمان اتحادي ضم نواباً سوريين ومصريين ما لبث أن انتهى بعد سقوط تجربة الوحدة التي رافقها تضييق على الحياة الديمقراطية، بحيث أسقط النموذج المصري الرئاسي والعسكري على الحالة السورية التي كانت قد تكرست فيها التجربة الديمقراطية القائمة على التعددية السياسية والحزبية وحرية الإعلام والصحافة واحترام الملكية الفردية وحرية السوق أي الليبرالية والانفتاح، ما اعتبره البعض أحد أسباب سقوط الوحدة السورية المصرية، إضافة إلى أسباب داخلية وخارجية أخرى ليعقب ذلك وبعد سنتين قيام ثورة الثامن من آذار التي قام بها حزب البعث، وتم تشكيل هيئة تمثيلية معينة هي المجلس الوطني لقيادة الثورة.
وخلال ست سنوات من قيام ثورة آذار لم تجر انتخابات برلمانية حتى قيام الحركة التصحيحية التي قادها الرئيس الراحل حافظ الأسد عام 1970 حيث جرى انتقال متدرج وهادئ من الشرعية الثورية (شرعية الإنجاز) إلى الشرعية الدستورية، حيث تم إقرار دستور دائم للبلاد واستفتاء على رئاسة الجمهورية وانتخابات إدارة محلية، وصولاً لتعيين مجلس شعب لمدة سنتين فقط من عام 1971 حتى عام 1973 أعقبه انتخابات لمجلس سمي مجلس الشعب مدة ولايته أو دورته أربع سنوات استمر بشكل مستمر ومستقر حتى الآن بالرغم من كل الظروف القاسية والصعبة التي مرت بها سورية بفعل الحرب والعدوان الذي تعرضت له خلال عشر سنوات مضت، حيث تمت الانتخابات البرلمانية لثلاث دورات على التوالي آخرها التي تجري اليوم الأحد ما عكس حقيقة تمسك الشعب السوري بمؤسساته الديمقراطية والسيادية وعدم تخليه عن إرثه الديمقراطي وأحد عناوين سيادته الوطنية مجلس الشعب.
لقد عكست البرلمانات السورية التي انتخب أعضاؤها بعد عام 1973 مصالح الطبقات الفقيرة والمتوسطة انسجاماً مع فلسفة البعث ومشروعه الاجتماعي السياسي وهذا أمر طبيعي في ظل تشكيل البعثيين أكثر من 65 بالمئة من عدد أعضائه، فهو بهذا المعنى يعكس فائض قوة طبقية واجتماعية، بدليل أن نصف أعضائه حتماً من العمال والفلاحين إضافة إلى حصة نسائية لا تقل عن عشرة بالمئة من مجموع أعضاء المجلس البالغ عدد أعضائه 250 عضواً، وبالمقابل، وبالمقارنة مع البرلمانات التي تشكلت في سورية قبل عام 1960 يجد الملاحظ أن أغلبية أعضاء تلك البرلمانات كبنية طبقية واقتصادية واجتماعية هم من رجال الأعمال والتجار ورجال الدين وشيوخ العشائر والساسة التقليديين وعدد محدود من أحزاب ناشئة، حيث يلاحظ تكرار أغلبية أعضاء البرلمانات المتعاقبة، وهذا يعكس إلى حد كبير ثقافة انتخابية كرستها إلى حد بعيد هوية سياسية لأنظمة قائمة.
لقد كان للبرلمانات التي تشكلت قبل عام ستين دور كبير في انتخابات الرئاسة ورقابة فعالة لأداء الحكومات المتعاقبة بما في ذلك المحاسبة وحجب الثقة وتعديل الموازنة وتشكيل الكتل البرلمانية كتحالفات لجهة تمرير بعض التشريعات أو تسمية وزراء كمحاصصة أو لاتخاذ مواقف سياسية بشأن قضايا مطروحة سواء على الصعيد الداخلي أو العربي والإقليمي لاسيما قضية الصراع العربي الصهيوني، حيث يلاحظ ثبات الموقف من القضية الفلسطينية من كافة البرلمانات على الرغم من اختلافات وخلافات مع التركيبة السياسية القائمة، إضافة إلى أن السمة الوطنية وعدم التابعية لقوى خارجية أو صدى لها هي الغالبة على ممثلي الشعب السوري في البرلمانات المتعاقبة، وهو ما كرس قاعدة أن البرلمانات السورية كانت تاريخياً ولازالت صناعة وطنية نظيفة.
إن الحراك الذي تشهده المنافسة الانتخابية على الرغم من القناعة بأن ممثلي البعث هم الكتلة الأكبر في البرلمان المنشود يدل على أن الوصول لقبة البرلمان السوري هو طموح لأعداد كبيرة من السوريين على الرغم من أن أغلبية المواطنين غير راضين عن أداء مجلس الشعب خاصة ما يتعلق بدوره الرقابي والمحاسبي، وكذلك تنفيذ البيان الحكومي والتزام الحكومة بحيثياته وغياب آلية تتبع لتقيدها بمضامينه، إضافة إلى مكافحة الفساد ومتابعة جادة لقضايا المواطنين لجهة إيجاد حلول، والخوف هنا من تكريس هذه الصورة غير الإيجابية في الوعي العام عن أداء المجلس، وهنا تصبح مهمة الأعضاء الجدد من كل القوى السياسية الحزبية المؤتلفة والمستقلة ورئاسة المجلس تغيير هذه الصورة النمطية عبر تفعيل الصلاحيات الواسعة لهذه المؤسسة الوطنية والسيادية العريقة.
إضاءات – د. خلف المفتاح