تنويعات على الأفق المفتوح

الثورة أون لاين -ناظم مهنا: 

-١-
العرب، في عصرهم الفعَّال، كانوا صناع صيرورات، يتقدَّمون في أفقٍ مفتوح، ويصنعون عالماً جديداً، وفق آليةِ دفعٍ ذاتية إرادوية، قلَّ نظيرها، آلية جعلتهم ينتظمون، كلٌّ من موقعه في الحركة نحو الأمام، وكأنهم كانوا يهربون من بداوتهم، من عزلتهم، من فوضويتهم، بخطوات مقدامة غير هيابة، إلى الأمام دون النظر إلى الخلف، بهذا الدافع النشط الذي حرَّكهم، عن تخطيط أو عفو الخاطر، خلقوا صيرورتهم الوجودية والجغرافية ذات الأبعاد الحضارية الموشورية، متعددة الأسطح والأوجه، إذا جاز القول. انخرط فرسانهم في حركة الفتح أو ما أطلقوا عليه اسم «الفتوحات»، والكلمة تأخذ هنا بعداً ينزاح عن «الغزو»، إنه فتح الآفاق. هؤلاء الجوَّابون الذين تكسَّرت تحت خطواتهم المسافات والحدود، راحوا يطوون البيداء، ويدخلون مدناً لم يرَوا مثلها من قبل إلّا في الخيال، وتنطوي تحت ظلال سيوفهم جيوشٌ وأباطرة وأكاسرة. يرتادون أرضاً جديدة في جهات الأرض شرقاً وغرباً، يكتشفونها ويكتشفون أنفسهم، والشعراء يؤججون فيهم هذه الروح المقدامة للمُضيّ قدماً. ازدهر الشعر في زمن البطولة، كما يحدث في تاريخ الحضارات، ففي زمن الركود لا شيء يزدهر! وإذا صَحَّ أن سكان البلاد المفتوحة قد احتفوا بالقادمين الجدد، أعتقد، ليس بوصفهم غزاة بل صانعو أفق جديد قادمين من التيه، بعد أن قطعوا كلَّ هذه المسافات.
-٢-
الشعر، صيرورة وحركة وأفق، عرف العرب بكثافة هذه الحيوية في القول الشعري.
في حالات الصيرورة الشعرية يغدو الشاعر والشعر ذاتاً واحدة، هذا ما تحقق عند امرئ القيس، وأبي تمام، وأبي نواس، والمتنبي، وأبي العلاء، وعند السيَّاب، والبياتي وأدونيس، ونزار قباني، ومحمود درويش، ومحمد الماغوط… كلّ على طريقته.
كلُّ شاعرٍ من هؤلاء أدرك ضرورة اختراق القوى الراكدة التي تعوقه، أو تحاول أن تحتجزه وتحتجز كلَّ حركة نحو الأمام، نحو الأفق المفتوح.
أدرك المتنبي مكانته الشعرية باعتداد، وأدرك الفارق بينه وبين الشعراء الحاسدين، قال مخاطباً سيف الدولة:
ودَعْ كلَّ صوتٍ غير صوتي فإنني
أنا الطائرُ المحكي والآخر الصَّدى
وكأنه يقول: أنا غير هؤلاء الشعراء، أنا الحركة الموّارة وهم الثبات، أنا الصوت الحقيقي وهم الصدى، أنا النهر وهم المستنقع، ويجيز الشعر الكلاسيكي مثل هذه المبالغات. ويبلغ به الاعتداد بشعره أن يقول:
وما الدَّهر إلا مِن رواة قصائدي
إذا قلتُ شعراً أصبح الدَّهر مُنشِدا
هل هذا اعتداد فارغ بالذات، أو أن الشاعر كان يرى أفق العالم، ويراهن على أن الدهر سيضعه في الفضاء الكوني للشعر؟
أراد كافور أن يستأثر بالمتنبي، أن يحتجزه له وحده، أن يحوِّله إلى طائر في قفص ذهبي، إلا أنَّه طائرٌ حرٌّ، جوَّاب آفاقٍ لا يستكين:
على قلقٍ كأنَّ الرِّيحَ تحتي
أُحرِّكُها جنوباً أو شمالاً
المتنبي صانع صيرورة، قطع من أجلها الفيافي وخاض الأهوال، استحق عليها هذه المكانة على مَرِّ العصور.
أبو العلاء المعري أيضاً شاعر صيرورة من نوع آخر، تحدَّى سجونه الثلاثة، كانت بصيرته الثاقبة تختطُّ له دروباً في الأفق، نافراً من الركود والانحطاط، مبشّراً بالعقل، هادياً وإماماً للبشرية، ولا شيء يستحق الصدارة سوى العقل في الكتيبة الخرساء، كتيبة الركود المستنقعي.
وقف المعري ضد القناعات اليقينية كلِّها واخترقها، ناقداً ومكافحاً ضد عصره الراكد الذي بدأت تمزّقُه الفتن، ويتردّى بالفساد الشامل.
بمثل هذه الحركية الصيرورية يمكن أن نقرأ أيَّ شاعر وأي نتاج إبداعي، لا في ثباته أو ركوده، ونتلمس الآفاق التي راودها والحيز الذي اقتطعه على خرائط الأفق الذهني للبشرية، والشعر مقياسٌ عظيم لفاعلية وحركية الأمم والثقافات والعصور، أكثر من أي شيء آخر، إنَّه عمارة فردوسية محسوسة بالحدس.
-٣-
في شعرنا الحديث قامات وذرا وصناع صيرورات وآفاق، ولكن نحن اليوم بأمسِّ الحاجة إلى إدراك معنى الشعر. الشعراء أنفسهم هم الأولى بتعميق الدراية في معنى الشعر. ماذا يعني أن يكون المرء شاعراً؟ وبمجرد إدراك هذا الأمر أولاً، ثم إدراك العلاقة مع الأفق المفتوح الذي تتطلبه الكينونة الشعرية، يجد الشاعر نفسه تلقائياً يتعالى ويسمو عن الصغائر وعالم الثرثرة ويتحرر من الأشياء التي تشده إلى الخلف وتعوق انطلاقته، أن يتحرر خياله وعقله ويعانق الوجود ويوسع دائرة الإشعاع. إن الشاعر الجديد منوط به أن يدرك مكانته في هذا العالم، وألَّا يلتفت إلى الدعوات التي تسفه الشعر والمعنى والبعد الأخلاقي في الثقافات، أيّاً كان مصدر هذا التّسفيه، وألّا يرتهن إلى الجماليات التقليدية للكتابة التي ظهرت في عصر الركود الطويل. ليست الجماليات التقليدية إلا قيوداً، وحالات متراكمة من الحشو، يستوجب أن نتمرَّد عليها، أن يضع الشاعر نفسه في الاختبار الصعب، فإمّا أن يقدر على خلق صيروته، وإمّا أن يستكين إلى العادي والمكرر الذي لا قيمة حقيقية له. ليس الشعراء أصواتاً أو رجع صدى، بل هم جوَّابو آفاق، يحملون جمرة قد لا يحملها غيرهم، إنها الصيرورات التي تسهم في خلق الآفاق الجديدة، وإلّا لا.

لا لشعر يشبه نقيق الضفادع، وقوقأة الدجاج. الشاعر هو الأقدر على اجتراح اللغة والسائد واختراق الغرابة وفتح الدروب للعقول الأخرى لكي تتقدَّم، كما فعل أسلافنا الشعراء. والشاعر الجديد قادر أن يجعل مساره اللغوي مسار صيرورة، وفعل حركة ومراودة أفق وانبثاق موشوري، هذا ما فعله أدونيس ومحمود درويش ومحمد الماغوط، ويمكن أن يفعل ذلك شعراء آخرون من الأجيال الجديدة، حين يخلق كل شاعر إيقاعه الخاص ليس بالمعنى اللفظي، بل بالمعنى الجوهري لكلمة الإيقاع بما تتضمنه من صيرورة ذات أبعاد لغوية ومعرفية وزمانية ومكانية…
-٤-
وللذين ينفرون من عروبتهم اليوم، وأيّاً كانت الأعذار والمسوغات، أقول: لن نستطيع، يا أصدقائي، أن نفعل شيئاً إذا أنكرنا أننا عربٌ، ولن نكون شيئاً آخر، ولن نقدر أن نبتكر هويَّة جديدة، والهويات المستحدثة، الناتجة عن ردود الفعل، مصيرها الاندثار السريع في رمال الصراعات الكبرى. لكن ماذا يعني أن نكون عرباً؟
أعتقد، يحتاج الأمر إلى فهم جديد لحاضرنا وللعالم الذي نعيش فيه، نحتاج اليوم إلى عروبة رحبة، عروبة مزدهرة تحتوي وتعتز بروافدها ولا تنبذها أو تتعالى عليها، الأمر يحتاج إلى إرادة ووعي، وإلى فتح خطوط جديدة في الأفق الراهن، ولو كانت الخطوط متكسرة أو متعثرة. نحن في مأزق وجودي، يُهددنا جماعات وأفراداً، ولا مفرَّ من الخروج ومن التشكل الجديد القائم على الوعي والمعرفة.

آخر الأخبار
فعاليات من اللاذقية لـ"الثورة": سيادة القانون والعدالة من أهم مرتكزات السلم الأهلي وزير الاستثمار السعودي يطلع على الموروث الحضاري في متحف دمشق الوطني مذكرة تفاهم سياحي بين اتحاد العمال وشركة "لو بارك كونكورد" السعودية كهرباء ريف دمشق تتابع إصلاح الأعطال خلال يوم العطلة وزير الاستثمار السعودي يزور المسجد الأموي محافظ درعا: استقبلنا نحو 35 ألف مهجر من السويداء ونعمل على توفير المستلزمات باريس تحتضن اجتماعاً سورياً فرنسياً أمريكياً يدعم مسار الانتقال السياسي والاستقرار في سوريا فيصل القاسم يدعو إلى نبذ التحريض والتجييش الإعلامي: كفانا وقوداً في صراعات الآخرين الحفاظ على السلم الأهلي واجب وطني.. والعبث به خيانة لا تغتفر  الأمن الداخلي يُجلي عائلة أردنية علقت في السويداء أثناء زيارة لأقاربها "الصمت الرقمي".. كيف غيّرت وسائل التواصل شكل الأسرة الحديثة؟  عودة اللاجئين السوريين.. تحديات الواقع ومسارات الحل  نائبة أميركية تدعو لإنهاء "الإبادة الجماعية" في غزة وئام وهاب… دعوات للعنف والتحريض الطائفي تحت مجهر القانون السوري الأمم المتحدة ترحب برفع العقوبات عن سوريا وتعتبرها خطوة حاسمة لتعافي البلاد الاستثمار السعودي حياة جديدة للسوريين ..  مشاريع استراتيجية لإحياء العاصمة دمشق  الباحثة نورهان الكردي لـ "الثورة": الاستثمارات السعودية  شريان حياة اقتصادي لسوريا  أهالٍ من نوى يطالبون بالإفراج عن متطوع الدفاع المدني حمزة العمارين   السعودية وسوريا.. من الاستثمار الى إعادة بناء الثقة   جامعة دمشق تتصدر في تصنيف "الويبومتريكس" العالمي