الملحق الثقافي:ناظم مهنا:
الانفجار الغاضب في أمريكا، مهما كانت نتائجه، له دلالاتٌ كبيرة جديرةٌ بأن تُقرَأ، وما يجري اليوم أمرٌ جلل بمآلاته وبرمزيته، وهو يتجاوز ذاته، وتنفتح فيه الدوائر على بعضها، فهو ليس مجرد جريمة ارتكبتها الشرطة الأمريكية ضد مواطن أمريكي أسود، وهذا أمرٌ يحدث كثيراً، وليس مجرد دلالة على وجود العنصرية في البُنْيَة التكوينية للنظام الأمريكي، وهذا أمرٌ معروف، وليس مجرد دلالة على أزمة أخلاقية في الرأسمالية المتوحِّشة، والنظام الإمبريالي الذي تُمثّله أمريكا، إنه كل هذه الدلالات. ويمكن أن نضيف إليها كثيراً من التشوّهات الأخرى.
والأمر بمدلولاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والثقافية يضعنا أمام تساؤلات متوالدة، كلها تدور حول الوضع البشري اليوم وعلى الأصعدة كلّها. والحقيقة أن الغضب تدحرج ليصل إلى أوروبا، وقارات العالم تتفاعل معه، وهذا التفاعل أمرٌ جيد، ولكنه غير كافٍ، وهو اختبارٌ صعب للعالم في مقدرته على إحداث تغييرٍ حقيقيٍّ تنعكس نتائجه على البشرية. وإذا ما أُخمِدَ هذا الغضب أو أُجهِضَ ببعض قوانين العقوبات أو الإجراءات الشكلية، فالأمر سيكون مخيّباً.
2
يحدث الانفجار في مركز الإمبراطورية العالمية، في روما الجديدة التي تكشَّفت عوراتها، وسقطت أقنعتها، وهي التي تدّعي أنَّها حارسُ العالم الحرّ والقيم الديمقراطية، وقد شنَّت الحروب على العالم، وحاصرت الشعوب اقتصادياً ومنعتها من التحرر ومن الاستقلال، فكانت أعلى مراحل الاستعمار وأبشع تجلّياته، و أدت دورها الكبير في تتفيه العالم وتسطيح الثقافة ونشر أخلاق استهلاكية ومبادئ نفعية وذرائعيّة، وفي الوقت نفسه كان أتباعها ومسوّغو سياساتها وثقافتها يوجّهون السهام إلى الفكر البشري الأصيل لينالوا منه ويهمّشوه ويشوّهوه، وقد وضعوا أمريكا سقفاً للعالم وعائقاً في مساره التقدمي المتصاعد منذ القرن الثامن عشر.
إنَّ رجعية الإمبراطورية الأمريكية المزمنة، تتفكّك اليوم وتتداعى، وقد بلغت ذروتها، وهذا سينعكس على العالم برمّته، فإمّا أنْ تنفتحَ آفاقٌ جديدة للبشر، وإما الارتكاس الكبير، إنها فرصة كبيرة ليقول العالم كلمته ويثبت فاعليته، ويعيدَ الأحرارُ الجدد والفقراءُ المهمّشون الإيقاعَ المفقود إلى الوجود، وإلى الحضور الدائم…
3
تاريخٌ طويل من العذابات، وذاكرة موروثة من الألم والعبودية البغيضة يختزنها الأمريكيون الأفارقة، وغيرهم من ضحايا السيد الأبيض (الاستعماري)، بل العالم كلّه اليوم يعاني من هذا التَّسَيُّد الصلف، وكأنّ جماعةً من الظلاميّين يلعبون في الظلام، ويصنفون الناس على لائحة القتل.
اليوم في هذه الصدمة يتبيّن أنَّ الأمريكي الإمبريالي يحتاج إلى من يحرّره مَنْ أوهامه، ومن أمراضه العفنة، ومن ذاكرته المريضة، في أنه القاتل دائماً من دون حساب أو عقاب، وقد اعتاد (الأمريكي) الادّعاء أن تحرير العالم على عاتقه وحده دائماً!
خرج صوت المخنوق من الداخل، ليصرخَ في وجه خانقه: أرجوك إنني أختنق. لم يبالِ القاتل بصرخة الضحيّة (جورج فلويد) الأعزل من الحماية ومن أدوات الدفاع عن النفس، وكانت الكلمات الأخيرة للضحية: إني أختنق، من فضلكم دعوني أتنفَّس، إلا أنَّ القَتَلة لا يرون له الحقّ في الحياة، ولا يعني لهم شيئاً. إنه في نظرهم ابن سلالة العبيد، وهو لا يزال ملك سيده!
الشرطي الأبيض يتوارث اعتقاداً متأصّلاً أنّ هذا الفتى من العبيد، الذين لا قيمة لحياتهم، وكأنه يقول: أمريكا لي وليست لك. ولم يكن يعي أنَّ القتيل سيغدو رمزاً.
4
توني موريسون، الروائية الأمريكية من أصول أفريقيَّة، والحاصلة على جائزة نوبل عام (1993م). في كتابها “اللعب في الظلام”، نقله إلى العربية الأستاذ أسامة إسبر عام (1999م)، ترى أنَّ ثقافة الهيمنة الغربية أخذت صورةً نمطيّة عن الأفريقي، تقوم على الإقصاء، وتشير إلى إمكانيّة وجود اتّفاق ضمني، قليلاً أو كثيراً، بين الباحثين الأدبيين، مفاده أن الأدب الأمريكي حكرٌ على وجهات نظر وعبقرية وقوة بيضاء ذكريّة، وإن وجهات النظر هذه والعبقرية والقوة لا تجمعها علاقة مع السود في الولايات المتحدة، وتشير إلى الرَّبط بين العنصرية والضعف الأخلاقي.
الثقافة الأمريكية العميقة تفضي إلى أن العنصرية ظاهرة طبيعية، وإن كانت مثيرة للسخط، والأمريكيون ينتقدون العنصرية على أنها شيء مؤسف ولكنه موجود، ولا يعملون جدياً على إنهاء العنصرية من جذورها!
تقول موريسون: “ليس هناك مهرب لكلٍّ من الكتّاب الأمريكيين البيض والسود من لغةٍ مصابة بالعنصرية في مجتمع قائم على العنصرية بشكل كامل”.
يمكننا أن نسمع الأمريكي الأبيض (الطيب) يقول: قوانيننا ضد العنصرية إلا أن إخوتنا السود لا يريدون النّسيان. ويحمِّل السود مسؤوليَّة العنصرية!
5
ما يقوله الغاضبون في هذا الانفجار: لقد أفلستم أيَّها العنصريون، وثرثرتم كثيراً عن القيم والحقوق، وأنتم أكثر مَنْ يتناقض مع أقواله، أفلستم في الداخل وفي الخارج مع شعوبكم ومع الشعوب الأخرى القريبة والبعيدة، ولم يتجدد فيكم سوى جلدكم الاستعماري.
ها هم في خروجهم كمن يضع المرآة في وجوهكم، ويسلِّطون الضوء على حقيقتكم البشعة. لقد ضجَّت الأرض والفضاء من قسوتكم، من لاإنسانيتكم، ولم يعد مرتزقتكم من مثقّفي العالم الثالث وغيرهم يفيدونكم بشيء، وفقدوا المقدرة على ابتكار الأكاذيب وتسويغ أفعالكم الشنيعة، وهم يسقطون معكم مذعورين. في كل جريمة كبيرة أو صغيرة ترتكبونها تذكّرون العالم بسلسلة جرائمكم الطويلة والمتواصلة!
في ثورة الغضب الشاملة هذه، ضد الإمبراطورية الجديدة، يكتشف الناس من كل الأعراق أنفسهم، إنهم متقاربون ويوحِّدهم الظلم، إنهم يهتفون في وجوهكم: نحن هنا، أقوياء أكثر مما تعتقدون، قادرون على إقلاقكم وقلب الطاولة، ودفعكم إلى أن تعيدوا النظر في أنفسكم وفي تاريخكم العنصري الاستعماري القائم على الجريمة والنَّهب، وما أنتم في أحسن الحالات إلا عقبة كبيرة في وجه الحرية والعدالة والتّقدم.
ليست مشكلة الغاضبين مع الشرطة أو مع ترامب أو الحزب الجمهوري أو الديمقراطي ولا مع رئيس فرنسا أو أيّ سياسي آخر، بل مع المنظومة القائمة في الغرب كله (السيستم الإمبريالي) الذي يقود العالم من مأزق إلى آخر، يقولون لكم: كفى… لستم جديرين بقيادة أحد، وأنتم لم تفلحوا إلا في إثارة الشقاق والفوضى والتلوّث والاضطراب والظلم والتجويع…
يقول سارتر في ستينيّات القرن الماضي، ما يصلح لما نحن عليه اليوم، في مقدمته لكتاب فرانز فانون “معذبو الأرض” وهو يخاطب قومه الاستعماريين: “إنكم تعلمون حَقَّ العلم أننا مستغلون وسلبنا القارات، ذهبها ومعادنها ثم بترولها، وجئنا بذلك إلى بلداننا القديمة، وقد حصلنا من ذلك على نتائج رائعة: قصوراً وكاتدرائيات وعواصم صناعية، وحين كانت الأزمة تهددنا، كانت وظيفة أسواق البلاد المستعمرَة أن تزيل الأزمة أو أن تحوّل مجراها، وأتخمت أوروبا بالثروات، ومنحت صفة الإنسانية لجميع سكانها، فالإنسان في بلادنا شريك في الجريمة.. وهذا المسخ، أمريكا الشمالية، الذي فاق أوروبا، يا لها من ثرثرة! حرية، مساواة، أخوّة، محبة، شرف، وطن.. وما لا أدري أيضاً، وكأن هذا الكلام لا يمنعنا من أن نقول في الوقت نفسه كلاماً يعبّر عن العنصرية والعصبية العرقية.. إن الغربي لم يستطع أن يجعل نفسه إنساناً إلا بخلق عبيد ومسوخ…”.
والآن، دقَّت الأجراس ولم يعد بالإمكان الاستمرار باللّعب في الظلام.
التاريخ: الثلاثاء28-7-2020
رقم العدد :1007