قد يبدو هذا التساؤل للوهلة الأولى قفزة طويلة في الهواء وفي فوضى الفراغات السياسية، ولكن الخبراء في التركيبات الجديدة للعالم وشعوبه يدركون أن الوصايات التي انتهت في منتصف خمسينيات القرن الماضي تتطور لتأخذ أشكالاً مختلفة تظل مؤثرة، لكنها أقل فجاجة وفقاعة من الاستعمار المباشر.
وفرنسا “الماكرونية الروتشيلدية” ما زالت ترى في لبنان ربيباً، وما زال بعض الشعب اللبناني الفرانكفوني يرون فيها “اللأم الحنون” دون قراءة التطورات التي جعلت منها تابعة عمياء لسيدتها أميركا وبالتالي ربيبتها إسرائيل، وهذه الشريحة أو الشرائح لا ترى غضاضة في عودة الانتداب بعد أن فشلت الطبقة السياسية في إدارة البلاد إلى أن وصل إلى حرب أهلية دامت 15 عاماً، وانتهت باتفاقية الطائف.
والغرب لم يكن بعيداً عن هذه التطورات فابتكر ما يسمى بحراك 17 تشرين بواسطة السفارات ومنظمات الـ ngo الممولة من الخارج، وصدق المسحوقون بأن هذا الحراك سيكون بارقة أمل لهم للتغيير، لكن “زعران” السفارات والأحزاب ركبوا عليها وسرقوها.. وما زالت الأمور على حالها بل وتتردى يوماً بعد يوم إلى أن أوصلوا المواطن اللبناني إلى الانتحار جوعاً.
وفي هذه الظروف العصيبة سقطت مؤتمرات المانحين وسقطت العملة وسقطت الدولة، إلى أن حدث التفجير الهائل في مرفأ بيروت. ومن السذاجة بمكان اعتبار أن حادثة تقارب هيروشيما جاءت نتيجة إهمال القائمين على المرفأ الذين اضطروا إلى تخزين أطنان من نيترات الأمنيوم شديدة الانفجار في عنبر واحد قدمته هدية لمن يريد أن يحرق لبنان.
وكلنا يعرف أن المانحين وفي مقدمتهم فرنسا كانوا يشترطون السيطرة على المرفأ وتأميمه مقابل أي مساعدة.
ومن هنا جاءت زيارة ماكرون الروتشيلدي إلى لبنان، فوجّه حزمة من الإهانات إلى الطبقة الحاكمة، حيث تفقد المرفأ قبل اللقاء مع رئيس الجمهورية كما يقتضي البروتوكول، ثم أجرى اللقاءات العادية مع الرؤساء الثلاثة وأعاد خلالها ما قاله وزير خارجيته لودريان : “ساعدوا أنفسكم لنساعدكم” وأجروا الإصلاحات المطلوبة وصولاً إلى حكومة الوحدة الوطنية، وجال في الشوارع المتضررة “شوارعه العتيقة”، ثم دعا زعماء الطوائف إلى السفارة الفرنسية وتصرف معهم كما يتصرف المندوب السامي.
ومن الطبيعي وفي ظل هذه الظروف المأساوية أن يعتبر بعض اللبنانيين ماكرون منقذاً، ويرحبون بالوصاية أو الانتداب، لكن ماكرون وكل الدول العظمى لم يدركوا بعد أن لبنان الذي يعرفونه لم يعد كما كان، ولبنان بعد الـ 82 ليس هو كما قبله، ونسي أن محور المقاومة قد غير ذهنية نصف اللبنانيين الذين أصبحوا يعرفون أن عمقهم العروبي هو سورية، وأن عمقهم الايديولوجي لم يعد يسكن في التاريخ، بل أصبح يقاتل في الميادين تحت صرخة “هيهات منا الذلة”.
وإن غداً لناظره قريب
معا على الطريق – د . عبد الحميد دشتي