الثورة أون لاين – غصون سليمان:
كثيرة هي القصص التي تدهشك تفاصيلها، وكثيرة هي الحكايا التي تتفوق بخصوصيتها على مساحات السطور المدونة، لنساء سوريات تحدين كل الظروف الضاغطة وتخطين حواجز الخوف والقلق، وأعدن لنبض الحياة إيقاعه الجميل رغم الصخب والتعب.. إيمان فاكه واحدة من أولئك اللواتي خضن تجربة الاختبار في مضمار الحياة وشروطها المختلفة.
لم يقف زواجها المبكر عائقاً أمام تفوقها الدراسي والذي كان شرطاً لقبول الزواج لمتابعة ما تطمح إليه في دراسة اللغة الانكليزية، لكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه أو يعرف ما تخبىء له الأيام.. فقد صادف موعد ولادتها لمرتين فترة تقديم امتحانات الثانوية العامة، فحرمها الوضع الصحي من تقديم الامتحانات، ورغم ذلك أصرت على المتابعة إلى أن نالت الشهادة الثانوية عام ٢٠٠٣ وبعلامات جيدة إلا أن تغيير مادة اللغة الانكليزية ودخول نظام علامات التثقيل عام ٢٠٠٣ والذي حدد فيه ضرورة أن ينال الطالب بعلامة اللغة فوق الثلاثين حتى يتابع دراسته الجامعية في العلامة الاختصاصية لفرع اللغة الانكليزية فيما كانت علامتها أقل من الثلاثين ببضع درجات.
انكسر خاطر السيدة فاكه بهذا القرار لكنها ما زالت مهووسة بمتابعة الدراسة وإن كان المحيط العام لا يحفز و لا يشجع كثيراً في بعض الجوانب. ومع ذلك لم تستسلم لأمر الواقع وأصرت أن تعوض ما تطمح إليه من خلال حبها لفنون المطبخ والاستمتاع بإنجاز ما يحلو لها من أصناف الطعام والحلويات.
بدأت التجربة خارج المنزل من خلال مساعدة الجيران والأقارب والأصدقاء وكل من يطلب الاستشارة في إنجاز خلطة العجين لأطباق الحلويات، فقد كانت تزور معظم البيوت. هذه الأرضية وهذا القبول والتحفيز من الأهل والناس شجعها بشكل عام على التفكير بإنجاز مشروعها الخاص رغم ضعف القدرات المادية بعدما نالت ثقة هؤلاء من خلال جودة المنتج وظرافته ونظافته.
تقول السيدة فاكه وهي أم لستة أولاد بأن فن المطبخ والعمل فيه يجب أن يتمتع صاحبه بمزاج ورغبة وتذوق، فالعين هي الفاحص الأول لأي تقبل واستقطاب الرضا وهذا ما أتقنته في الشكل والمضمون.
من هذه الأرضية الجيدة والممتازة إلى حد كبير بدأت مشوارها في صناعة المنتجات الغذائية الطبيعية حسب كل موسم من أجبان وألبان، حبوب”برغل، حنطة مقشورة”، المربيات بأنواعها مشمش، كرز، توت شامي، تين، عنب، قرع إلى جانب العصائر المختلفة، وكذلك دبس البندورة الذي نال رواجاً واستحساناً كبيراً، والفليلفة بأشكالها الناشفة والرطبة المطلوبة، إلى جانب المكدوس، والزهورات المجففة، وهذا ما ساعدها على توسيع دائرة طلبات الشغل، بالإضافة طبعاً إلى صناعة الحلويات التي شقت طريق مشروعها الصغير من خلالها.
وتشير فاكه إلى أنه حين أطلت الحرب العدوانية على بلدنا أصبح العمل شبه متوقف لأسباب كثيرة وهي بالأساس انطلقت من اللاشيء لتصنع شيئاً ما على مستوى التحديات الحياتية. فمرة أخرى شجعها الجميع من أهل وأصدقاء وجيران على الاستمرار بما بدأت فيه رغم الضيق المادي والتعب النفسي والقلق المجتمعي
لكل مجتهد نصيب.
ولأن لكل مجتهد نصيب فقد ساعدها الحظ والصدفة حين أتى مندوب منظمة الأغذية العالمية” الفاو” إلى قريتها “حيلين “منطقة مصياف للوقوف ومعرفة من لديهم مشروعات غذائية صغيرة أو متوسطة متنوعة لتقديم ما يلزم، فكانت فاكه في الواجهة من ناحية امتلاكها كل مقومات النجاح والتميز من حيث المنتجات المعروضة في مطبخها، وحين استمع وشاهد عن قرب مندوب المنظمة ما تقوم به من تصنيع غذائي طبيعي بجودة ومواصفات عالية ويلبي حاجة المجتمع المحلي، أثنى على عملها مع تقديم بطاقة شكر تستحقها.
وبعد عشرة أيام من اللقاء في قريتها تمت دعوتها من قبل مندوب المنظمة نفسها “الفاو” إلى دمشق لحضور مؤتمر بفندق” الفور سيزن” لتقديم المشاريع المنتجة من قبل النساء الريفيات المشاركات من مختلف محافظات القطر.
عرضت فاكه مشروعها الخاص بالتصنيع الغذائي ونالت كل الاستحسان والتقدير مع تقديم الدعم مادي والمعنوي.
وبعد هذا اللقاء الذي فتح لها طريقاً آخر للنجاح والمعرفة وخاصة أن التكريم الذي نالته من” الفاو” أعطاها طاقة إيجابية وحالة معنوية لا تقدر بثمن، وهنا تقول فاكه: إن هذا التكريم المعنوي يعادل الملايين فقد نقلني من حال إلى حال على الصعيد النفسي والإنساني وعزز ثقتي كسيدة وأم سورية تعمل جاهدة لتحقيق الحد الأدنى من الاكتفاءالذاتي لأسرتي وعائلتي وأساهم بتلبية طلبات المجتمع المحلي كل حسب قدرته.
بعد ذلك شاركت فاكه في أحد معارض المرأة الريفية في مدينة الجلاء بدمشق بإشراف وزارة الزراعة، وقد كانت الأوفر حظاً في تسويق كامل منتجها المعروض من أصناف الأغذية الطبيعية.
كما شاركت في معرض آخر بالعاصمة دمشق للمرأة الريفية وحصلت على شهادة مشاركة.
وتذكر فاكه أنها دعيت للمشاركة في دورة أخرى بقرية ” الشيحة” من قبل مندوب منظمة الفاو لدعم مشاريع قرى منطقة مصياف في التصنيع الغذائي، وعلى إثرها قدم لها” فرامة، ميزان، مرطبانات، لدعم مشروعها.
كما خضعت لدورة أخرى في مدينة مصياف من أجل تقديم القروض من الزراعة للمرأة الريفية، وبقي الانتظار سيد الموقف لغاية اللحظة!؟. وهذه من الصعوبات التي تواجه عمل المشروعات الصغيرة فهي بحاجة على سبيل المثال لا الحصر إلى فرامة كبيرة وفريزة لحفظ الكميات الكبيرة من بعض المنتجات كالفليفلة وغيرها، إضافة إلى عجانة كبيرة لخلط العجين، لذلك نحن بأمس الحاجة كنساء ريفيات لتقديم الدعم المادي من قبل الجهات المعنية. فلا أحد يتخيل حجم المعاناة التي مرت بها كما تصف فاكه من ناحية تأمين رأس المال، ولا سيما أن بداية التصنيع والتسويق كانت تتم “بالدين “لكثير من الزبائن، ولا سيما أن الغالبية من أبناء المجتمع يعاني من الضغط المادي.
دعم عائلي..
وعن دور الزوج بشكل خاص والأسرة بشكل عام لنجاح أي عمل طموح واستراتيجي تقوم به ربة المنزل، يشير الأستاذ والزوج سلمان علي عباس إلى أن زوجته كانت طموحة جداً لأن يكون مستقبلها في الجامعة وقد كانت من الطالبات المتفوقات طيلة مراحل دراستها حتى بعد زواجها، لكن الأقدار تتحول بغير اتجاه حين تدخل المرأة معترك الحياة الزوجية وصعوبات ما يستجد فيها على صعيد تربية الأبناء وتأمين حاجاتهم ومتطلباتهم. مضيفاً أن ما قدمته زوجته من سهر وجهد وتعب وكفاح لإثبات ذاتها ودعم أسرتها لا يقدر بثمن، فمازالت متفانية بشكل مثالي لغاية اللحظة، وبالتالي مهما قدمت لها كزوج ورب أسرة من مساعدات تحتاجها داخل المنزل وخارجه، لا يساوي شيئاً تجاه المسؤولية الاجتماعية التي تقوم بها، وبالتالي تعبها لا يقدر بكل عبارات الثناء والشكر. فالمرأة السورية الصالحة هي عمود الأسرة والمجتمع.
أخيراً يمكن القول إن الثقة بالمنتج المحلي من حيث الجودة، والنظافة، والمذاق، والنكهة، والأمانة بالعمل، والسمعة الطيبة التي ترافقه، لا شك أنها تشكل الضمانة الحقيقية لتسويق المنتج، وتوسيع دائرة المعارف والأصدقاء داخل المحيط وخارجه، مع نيل بطاقات الشكر والرضا، وهذا ما تحقق للسيدة إيمان فاكه في مسيرة عمل مشروعها الصغير في التصنيع الغذائي الطبيعي. لكنه يحتاج إلى المزيد من الدعم المادي من قبل وزارة الزراعة من خلال مديرية تنمية المرأة الريفية.