أعلنت وزارة الثقافة عن أسماء الفائزين بجائزة الدولة التقديرية للآداب والفنون لعام 2020، وقد نالها كل من الدكتور اسكندر لوقا في مجال الأدب، والدكتور وهب رومية في مجال النقد والترجمة، والفنان التشكيلي الدكتور إحسان عنتابي في مجال الفنون.
ومما لا ريب فيه أن الأسماء الثلاثة تمتلك الأسباب العميقة لنيل جائزة بهذه الرفعة. فإبداعات الأديب الدكتور اسكندر لوقا المتعددة الأوجه ليست مما يخفى على مهتم بالأدب والصحافة والثقافة. وجهود الدكتور وهب رومية العلمية والتعليمية، كان لها دورٌ بالغ الأهمية والخصوصية، في فتح آفاق معرفية جديدة لدراسات الأدب العربي – خاصة -، ومع ذلك فإني سأتوقف هنا عند الفنان إحسان عنتابي، لا تمييزاً عن زميليه، وإنما لاستمرار قناعتي أن مجاله الإبداعي لا يزال بحاجة إلى المزيد من الإضاءة، قياساً إلى ما هو مرتبط بالكلمة، و بفعل حقيقة أن تجربته الإبداعية الثرية والاستثنائية لم تنل بدورها – رغم كل التقدير الذي تحظى به – ما تستحقه من إضاءة.
تعود الصورة الأقدم في ذاكرة إحسان عنتابي إلى ليلة أمضاها في قرية قريبة من مدينته حلب خلال سنوات طفولته الأولى أواخر الأربعينيات حين كانت الأرض تشكو شح الأمطار، في تلك الليلة هطل المطر غزيراً، ولما أطل الصباح تحلّق الناس مع قطعان الغنم عند بُركَةٍ كبيرةٍ تجمعت فيها المياه، بشكل عفوي من التشارك، فرسخت هذه الصورة في مخيلته الإبداعية لتظهر برؤيته الخاصة مراراً على امتداد السنوات التالية.
كان لموهبته الفنية، التي كشفت عن نفسها بجلاء منذ الطفولة، أن تحدد له طريق المستقبل، وخاصة بعد أن صقلها في مركز الفنون التشكيلية، ولما تقدّم للانتساب إلى كلية الفنون الجميلة وحاز على المركز الأول في امتحان القبول لم يختر قسم التصوير، كما كان يشي تفوقه كرسام، تجنباً للتشتت الذي تسبب به تباين اتجاهات التدريس في القسم بين اتجاه تقليدي صارم مثلّه الفنان ناظم جعفري، واتجاه متعصب لتجارب محددة في الحداثة الأوروبية عبّر عنه الفنان الإيطالي (لاريجينا)، واتجاه ينشد الحرية في التعبير تجسد في الفنان المعلم فاتح المدرس، فالتحق بقسم الإعلان وتخرج منه عام 1969 ليكمل دراسته العليا في فرنسا، ويتخرج عام 1975 من المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية في باريس، ليبدأ مسيرته الإبداعية والتعليمية كفنانٍ استثنائي ومعلمٍ متميز.
شهدت المسيرة الإبداعية لعنتابي محطات نجاح عديدة إحداها كانت مشاركته في (بينالي وارسو) عام 1976، بملصق عن لوحة شهيرة رسمها (سلفادور دالي) للسيد المسيح عام 1951، حيث عزل عنتابي الصليب عن باقي مكونات اللوحة مستبدلاً المشهد الطبيعي تحته بصورة جوية لمدينة نيويورك بما ترمز إليه من هيمنة اقتصادية وسياسة واستغلال إنساني، وبعد (بينالي وارسو) أعاد عنتابي هذا العمل المنفذ بالأبيض والأسود بألوان متعددة، وجمع منه لمعرضه الذي ختم به عام 2017 إثني عشر طبعة في إطار واحد دلالة على بقاء الحالة رغم تبدّل الزمن، وبعد بينالي وارسو شارك عام 1978 في المهرجان العالمي للإعلان بجامعة كولورادو (الولايات المتحدة)، وبينالي الفوتومونتاج في بولونيا عام 1978، وأعماله موجودة اليوم في: وزارة الثقافة السورية، المتحف الوطني بدمشق، متحف الشارقة، متحف هنري لانغلوا ـ باريس، متحف الدانمارك للبوستر ـ كوبنهاغن، متحف لاتي ـ فنلندا، وضمن مجموعات خاصة.
عمل عنتابي في مجال الإعلان والتصميم الفني حيث يمثل اسمه أحد أهم الأسماء في هذا المجال، وترتبط به مجموعة كبيرة من التصاميم المهمة، التي تتسم بآن واحد بعمق الثقافة وأفق الإبداع، ومن هذه الأعمال تصميم الهوية البصرية لمعرض دمشق الدولي في عيديه الذهبي والفضي، وتصميم الواجهتين الزجاجيتين للنصب التذكاري لمعرض دمشق الدولي في ساحة الأمويين المعروف باسم (السيف الدمشقي)، الذي تحدثنا عنه الأسبوع الماضي، والذي قام بتنفيذه مع الفنان مصطفى علي من زجاج ملون خاص بهذه الأعمال تم إحضاره من ايطاليا.
اتسمت لوحات إحسان عنتابي المنفذة ما بين عامي 2011 و 2017 بغلبة اللون الواحد، مقابل الثراء اللوني الذي اتسمت به أعماله الأقدم، ويترجم هذا اللون القاتم انعكاس الأحداث الأليمة على مشاعر الفنان ومخيلته، ويحكي من جهة مقابلة عن المقدرة التعبيرية الكبيرة للون الواحد، ودرجاته، التي ينجح الفنان بإطلاقها حين يمزج ألوانه بالضوء، (فهو من القلائل ممن استطاعوا ترويض اللون الأسود وفك ألغازه) على حد تعبير الفنان المعلم الياس زيات، وتشير لوحات إحسان عنتابي بوضوح إلى براعته كمصور متمكن، إضافة إلى براعته كمصمم غرافيكي قدير.
قد يصعب في هذا الحيز الضيق إيفاء الفنان حقه، إلا أنه في كل الأحوال فإن السيرة الإبداعية لإحسان عنتابي، المترفة بالتميز، تؤكد عدة حقائق منها: السمو الإبداعي، والمتابعة الحاذقة، والخبرة المتنامية، وسعة المعرفة، ووضوح الفكر، ونزاهة التوجه.
إضاءات -سعد القاسم