الشتات اللغويّ وخبايانا النفسية

 الملحق الثقافي:

توقّف علماء اللغة عند المترادفات، وتوسّع صنّاع المعاجم في سرد عشرات المفردات التي تصبّ في حقل المعنى الواحد أو قرًيب منه، فمثلاً يسردون أكثر من ٥٠ اسماً للسّيف والفرس وغيرهما كثير..
ابحث في معجم ما، فستجد ما يدهشك من تعدد المفردات التي تدلّ على معنى واحد أو متقارب. وفي كلّ الأحوال، هل هي أسماء حقيقية، أم صفات المسمّى ثم تحوّلت لتكون أسماء فحلّت الصفة محل الاسم؟
وقد تكون أسماء فعلاً وسبب تعددها أنّ كلّ قبيلة أو مدينة أطلقت اسماً على الشّيء نفسه، فالسّيف مثلاً عند قريش، والمهنّد أو الحسام عند قبيلة أخرى. ومع الّتواصل والتفاعل، شاع استخدام الأسماء كلّها ما جعل الأسماء تنتشر.
وفي فقه اللغة وسرّ العربية، نجد أن الثعالبي يطرح تعليلاً مقبولًاً لمثل هذه الحالات فيعدد مثلاً عشرات الحالات لصوت الماء. ولكن كيف توصل إلى هذه النتيجة وهل هي فعلاً كما يقول؟
أرجح الظنّ وكما يشي الواقع أنّ تعدد الأسماء لمسمّى واحد، ليس إلاّ حالة من الشتات اللغويّ والعنجهية التي كانت تسود العرب في العصر الجاهليّ والتنافر الذي ساد بين القبائل. يؤيد ذلك عمل كلّ جهة متنافرة عكس ما تقوم به الجهة الأخرى، وقد تكون النقائص الشعريّة دليلاً على ذلك. هذا يدلّ على أنّ أمراضنا الاجتماعيّة واللغويّة انتقلت إلى اللغة التي هي أداة التفكير.
وقد استمرت الحال هذه إلى أيامنا.. فلم تنته حالة الشّتات والفرقة التي كانت.. بل زادت واتسعت، يضاف إليها ما تركته حالات التزاوج اللغويّ سواء القسريّ من تتريك وفرنسة، أو ما هو نتيجة طبيعية للتفاعل الحضاري.
تنمّر النخبة
إذا كان الفتق قد تقلّص قليلاً وتمّ رتقه من خلال المعاجم التي جمعت المفردات المتشابهة بحقل واحد، وبحثت عن مسوّغات لذلك، فحفظتها، وقاربت بينها.. وانتشرت بين النّاس حتى اعتادوها تماماً؛ إذا كان حدث، فإنّ البلاء اليوم من طوفان التعريب غير المنضبط كارثيّ في المصطلحات والمفردات وغيرها ناهيك بظاهرة التنمّر اللغويّ التي يمارسها اللغويون و المترجمون، والنقّاد، فكلّ منهم يدلي بدلوه ويلقي بمصطلح ما على قارعة الاستعمال، فتجد عشرات المصطلحات لمفردة واحدة، فما يستخدمه هذا المترجم أو الباحث أو اللغويّ لا يستخدمه الآخر.. بل يعمد من باب المبارزة والتباهي إلى استحداث مصطلح مقابل.. فلا المجامع اللغويةّ شبه الساكنة تنفع ولا الجهات المعنيّة بتوحيد المصطلحات بقادرة على فعل شيء.
وتبدأ الدورة بالاتساع لا سّيما وأننا في عصر استهلاك كلّ شيء من منتجات الحضارة التقنيّة. هذا يعني أننا نستورد المنجز وتسميته معه. كلّ جهة مستوردة تطلق عليه ما تريد.
على سبيل المثال، تقدّم الشركات الدوائية نوعاً محدداً، يحقّ لخمس شركات إنتاجه، وكلّ شركة تنتجه تحت اسم فيه جزء من اسمه. وقس على ذلك. وكان يمكن أن يتم توحيد الاسم بإضافة رقم ١ إلى أول شركة منتجة له لنصل إلى رقم ٥ منه.
وفي الدراسات السياسيّة والأدبية وغيرها تجد تنمّر الباحثين واستعراض العضلات. أمّا في الفلتان الإعلاميّ ولاسيّما وقت الحروب والأزمات تبدو الكارثة أوسع وأعمّ وأشمل. محلل سياسي، استراتيجي، مفّكّر، يبدأ بضخ ما يحلو له من مفردات ومصطلحات، لا أحد يعرف كيف تفتقت عبقريته فوجدها. وحين يضعها موضع الاستخدام تخرج من السّيطرة لتأخذ مجرى اليومي وتتكرّس بغضّ النّظر عن مدى صحتها.

شتات النحو
هذا الشّتات اللغويّ في المفردات، يقابله شتات آخر عانينا منه في النحو ومازالت الجملة المشهورة ترنّ في الأذن.. يصحّ الوجهان في إعراب كلمة ما.
هل نذكّر بالتنافس بين مدرستي البصرة والكوفة، في النّحو وكتاب الإنصاف في حلّ الخلاف. ثم جاءت المدرسة الأندلسيّة للنحو، وقد تناول الرّاحل شوقي ضيف هذه المدارس النحويّة بكتاب له حمل اسم (المدارس النحويّة).
وحتّى الإملاء لم يسلم من هذا التنافر.. على سبيل المثال في سورية نكتب «مسؤول» هكذا بينما في مصر تكتب «مسئول».. في العراق يكتبون «هيأة»، وفي سورية «هيئة». في مصر لا يضعون نقطتين لاسم «علي».. بل يكتب «على» فتُقرأ في سورية على.

ما وراء التنافر
ما وراء هذا التنافر، ليس تنافساً في خدمة اللغة وتيسر سبلها، بل هو أبعد من ذلك، إنه تنفير وتعقيد، وصل حدّ المماحكات وجعلها ألغازاً كما فعل ابن هشام.. وهل ننسى المسألة الزنبوريّة في اللغة، وما أفضت إليه!
ربّما كان العرب الأقدمون يجدون وقتاً للمماحكات اللغويّة، فانكبّوا عليها مباراة ومقارنة ومبارزة وتباهٍ. انتقلت هذه المبارزة من وقت الفراغ إلى الحال الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، وسياسة التجاذب والمحاور مدعومة بغرورنا، والمشهد يستمرّ ويمضي نحو المزيد من التباعد.
لقد غدت لغتنا نسيجاً مرقّعاً، لم نحسن إعادة حياكة ما يدخلها من مفردات.. وتمّ شحن ذلك كلّه بطاقات سلبيّة في نواح الحياة كافةً.
بالتالي يمكن بكلّ بساطة أن يجد علماء الاجتماع أمراضنا وعللنا النفسيّة والثقافيةّ والحضاريّة فيما نستخدمه بلغتنا اليوميّة والثقافيةّ والسياسيّة والاجتماعيّة.

التاريخ: الثلاثاء25-8-2020

رقم العدد :1010

 

 

آخر الأخبار
محاور لإصلاح التعليم الطبي السوري محافظ حلب يبحث مع وفد ألماني دعم مشاريع التعافي المبكر والتنمية ابن مدينة حلب مرشحاً عن حزب الخضر الألماني خاص لـ "الثورة": السوري تامر غزال يكتب التاريخ في بافاريا.. "أنا الحلبي وابنكم في المغترب" سوريا تفتح نوافذ التعاون العربي عبر "معرض النسيج الدولي 2026"  رفع العقوبات إنجاز دبلوماسي يعيد لسوريا مكانتها ودورها الإقليمي دعماً للإعمار.. نقابة المهندسين تؤجل زيادة تكاليف البناء من التهميش إلى التأثير.. الدبلوماسية السورية تنتصر  متبرع يقدم جهازي "حاقن آلي" وتنفس اصطناعي لمستشفى الصنمين بدرعا  حملة شاملة لترحيل القمامة من مكب "عين العصافير"  بحلب بين دعم واشنطن وامتناع بكين.. الرحلة الاستراتيجية لسوريا بعد القرار "2799" ما بعد القرار "2799".. كيف قلب "مجلس الأمن" صفحة علاقة العالم مع سوريا؟  خبير اقتصادي ينبه من تداعيات التّحول إلى "الريعية"  قرار مجلس الأمن وفتح أبواب "البيت الأبيض".. تحول استراتيجي في الدبلوماسية السورية  كيف حول الرئيس الشرع رؤية واشنطن من فرض العقوبات إلى المطالبة برفعها؟ ٥ آلاف ميغا واط كهرباء تعزز الإنتاج وتحفز النمو  المعرض الدولي لقطع غيار السيارات.. رسالة نحو المنافسة باستخدام أحدث التقنيات   "صحة وضحكة" .. مبادرة توعوية لتعزيز النظافة الشخصية عند الأطفال من رماد الصراع إلى أفق المناخ.. فلسفة العودة السورية للمحافل الدولية  إنجاز دبلوماسي جديد لسوريا في مجلس الأمن