الملحق الثقافي:د. ثائر زين الدين:
شبَّهَ هوراس (56 ق. م.- 8 ق.م.) – الشاعرُ والناقدُ الأدبي اللاتيني في في عملهِ الشهير “فن الشعر”- عملَ الشاعرِ بعملِ الفنّان التشكيلي، ورأى أنَّ “الشعرَ هو الصور…”، وقالَ أبو عثمان الجاحظ (776-868) م: “إنَّما الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنسٌ من التصوير…”، ومما لا شك فيه أنَّ التصوير الذي عناه الجاحظ هو قدرة خيال الشاعر على إبداعِ الصور الخلّابة وتوليفها توليفاً مُنسجماً ضمن بنيةِ النص. لكنَّ ما يلفتُ انتباهي أكثر من سواه في عبارة الجاحظ هو توصيفه الشعر بأنّه “ضربٌ من النسيج”، ولعلَّهُ أوَّل من أطلقَ هذا التشبيه؛ ذلكَ أنني أتخيَّلُه يستحضرُ لحظةَ كتبَ عبارَتَه صورَ الأنسجةِ والأقمشةِ باهرة الجمالِ بألوانها ونقوشها ورسومها، التي كانت تملأُ أسواقَ بغداد والبصرة قادمةً من بلادِ فارس والصينِ والهندِ في ذروةِ الحضارةِ العربيّة الإسلاميّة؛ وهو ما يُحيلُنا إلى الفن التشكيلي بصورةٍ من الصور.
وأظنُّ أن صدى ما كتبه هوراس قد تردَّدَ في كلامِ كثيرٍ من الشعراءِ والفنّانين، ومنهم -على سبيل المثال- تشارلز أنطوان كويبل (1694-1752) الذي قالَ في خطابهِ أمام الأكاديميّة الملكيّةِ للرسم والنحتِ عام 1741: “على الرسَّام في أسلوبهِ الراقي أن يكونَ شاعراً، لا أقول إنَّ عليهِ أن يكتبَ شعراً، إذْ ربّما يفعلُ المرء ذلك من غير أن يكونَ شاعراً؛ ولكنني أقول إنّه يجب ألا يمتلئ بالروح ذاتها التي تحرّك الحياةَ في الشعر فحسب، بل عليهِ أيضاً أن يعرفَ بالضرورة قوانينه التي هي قوانين الرسم ذاتها… على الرسم أن يفعلَ بالعين ما يفعله الشعرُ بالأذن”.
وكان ليوناردو دافنشي (1452-1519) قد قالَ قبل ذلك بنحو مئتي سنة عبارته الشهيرة: “الرسمُ شعرٌ يُرى ولا يُسمَع، والشعرُ رسمٌ يُسمَعُ ولا يُرى”، وعبّرَ بيكاسو ذاتَ يومٍ عمّا يشبه هذا الرأي حينَ قال: “الرسمُ هو الشعر، وهو دائماً يُكتَبُ على شكلِ قصيدةٍ ذاتِ قافيةٍ تشكيليّة، وهو لا يُكتبُ بالنثرِ أبداً”، وسنقرأ للشاعر والرسام الأمريكي إ.إ. كمنجز (1894-1962) وصَفَ نفسَه في مُقدِّمةِ ديوانه ciopw: “أنا كاتبُ صور، ورسّامُ كلمات” ووصفَه عملية الإبداع بأنّها: “سماعُ لوحاتٍ مثل هذه، ومشاهدة قصائد مثلُ هذه”.
ولا شكَّ أنَّ العلاقةَ بين الشعر بخاصة (والأدب عموماً) من جهة، والفن التشكيلي من جهةٍ ثانية قديمة قدمَ هذين الوجهين الجميلين، من وجوهِ النشاط البشري، وقد ظَلَ هذان الفنّانِ عبر التاريخ متوازيينِ مُترادفين، لأنهّما ومنذ ولدا قد عالجا الكائنَ نفسه؛ أعني الإنسان؛ بوسائِلَ مختلفة بالتأكيد: من أشكال وألوان وكلمات، فصوّراهُ وقصّا فعاله ووصفا مشاعِره وأحاسيسه، وبالتالي فقد بحثا الموضوعَ نفسه وعملا على الأفكار نفسِها بشكلٍ أو بآخر حتى بَدوا وكأنهما متوافقانِ في الإلهام وقد اقتبس أحدهما من الآخر دائماً وتأثر كلٌ منهما بأخيه!
فمن منا مثلاً يستطيع أن ينكر تأثير الأساطير المصريّة الفرعونيّة القديمة على الفن المصري الفرعوني، أو ينكر تأثير الأساطير الإغريقيّة على النحتِ الإغريقي الوثني، ثمّ تأثير العهدين القديم والجديد على آلاف النحاتين والمصورينَ فيما بعد، وكأنّي بالكلمة أو الحكاية على العموم مصدراً أولياً وأساساً لإلهام المصّور أو النحات الخاطرةَ الأصليّة، التي سوف تتجسد بعدَ حين وتصنع المادة، وتتجلى عملاً فنياً فريداً، ومن هذا الباب يمكن اعتبار الفن التشكيلي تعبيراً عن فكرةٍ أدبيّة. ويؤيّدُ كثيرونَ هذا الرأي، ويؤكدونَ على أثر الإلهام الأدبي في تصميم الأشكال الفنيّة، وتركيب الألوان، لكنني شخصيّاً على يقين تام من أن المصوّرين والنحاتين لن يتمكّنوا من التعامل مع موضوعاتِ الشعرِ والتاريخ والقصّة والرواية ولن يستطيعوا استلهامها وتحويلها إلى أعمال فنيّة إلا حين ترقى تقاناتهم وأدواتهم الفنيّة مزوّدةً بسويةٍ فكريةٍ عالية، وتتقدم تقدماً كبيراً في دقتها وحساسيتها.
وبالمقابل، من التعسفِ بمكان ألا ننتبه إلى أثر الفن التشكيلي في الأدبِ وأسبقيّة النحت والتصوير مثلاً على كثيرٍ من الروائع الأدبيّة؛ فلن نبالغ لو قلنا إن أرباب الأولمب جميعاً، بل أرباب الديانات الوثنيّة المختلفة من إبداع النحت بصورةٍ ما؛ فإن كان الشاعر قد خَلَقَ بطل الملحمة، من مخيلتِهِ فإن المثّال هو الذي خلقَ ذلك الإله الوثني، والربُ هو قبل أي شيء آخر تمثال، بل حتى ميزاتُهُ الأخلاقيّة المختلفة – كما يشيرُ لويس هورتيك – من سموٍ أو دهاءٍ أو وضاعة هي في المقام الأوّل صفات تشكيليّة، وبقليلٍ من الاطلاع والتعمق في تاريخ الفن سندرك أن شخصيات الأُلمب الإلهيّة قد انحدرت من المعمل الذي وطّد نموذجها، ومن المرحلة الفنيّة التي ظهرت فيها.
فهناك أرباب تحملُ طابع فيدياس مثل زوس وأتينيه. وهناك آلهة أخرى اتسمت بسمات براكسيتيل مثل أفروديت والآلهة الفتيّة على غرار ديونيزوس وأبولون. وثمّة أرباب يدينون بصفات البطولة الرشيقة والقوية إلى أسلوب ليزيب مثل هِرمس وهرقل، وبعد أن يُرسّخ نحات عبقري وجه زوس في أولمبيا، أو وجه أتينيه في البارتنيون ويوطّد زيهَّمُا وهيئتهما، لن تستطع أن تعدّل فيها من بعده عشرةُ قرون من الوثنية.
على أن فيدياس لم يثبّت فقط نموذجاً طبيعيّاً، لقد وهب أيضاً هؤلاء الخالدين عظمةً سامية، أو أناقة وقوراً، بقيتا أبد الدهر سجيّة هذه الآلهة، فلم يتوصّل تودُّدُ الناس لها تودداً متطيّراً، ولا خيالهم المبتذل أن يحطا من هيبة تلكَ الأصنام الجبارة.
ومثل هذه الملاحظة تجعلنا نخمّن ما أوحت بهِ هذه التماثيل الشهيرة إلى تقوى المتقين، وتفكير الفلاسفة وخيال الشعراء، وقد يرى أحدهم أنّ “التصوير سابق الشعر. فلوحات واتو Watteau التي تمثّل حلقات الغزل تقدّمت مسرحيّات ماريفو Marivaux الشهيرة بمشاهد الدعابة ومراودة الحِسان، ولوحاتُ برودون prudhon التي تصوّر الليالي المقمرة، ولوحاتُ جوزيف فيرنيه Joseph Vernet التي تعرض أمواج البحر سبقت صفحات شاتوبريان التي تصف العاصفة والليل، والتيار الرومانسي الذي استلهَمَ القرون الوسطى وتغنّى بالمشاعر الشخصيّة أنتجَ فرائده في تصاوير دولاكروا Delacroise قبل مسرحيّات هوغو Hugo وملحمته “أسطورة العصور”، كذلك مهّدت لوحة كوربيه Courbet “الجناز في قرية أورنان” السبيل لمشهد جُنّاز مدام بوفاري”.
وكم أسعفت تماثيلُ الإلهة الأم عشتار؛ في صورتها المعروفةِ في الجزيرة العربيّة بالعُزَّى واللات ومناة شعراءَ الجاهليّة، فشبَّهوا حبيباتهم بالدُمى. يقولُ المرار بن منقذ:
قد نرى البيضَ بها مثل الدمى
لم يخنهنَّ زمانٌ مُقشعر
يتلهَّينَ بنوماتِ الضُحى
راجحاتِ الحلمِ والأنْسِ خُفُر
وقد يخطرُ ببالِ قارئٍ على معرفةٍ عميقةٍ بالشعرِ والفن أن الصورةَ التي رسمها الشاعرُ العربيُّ الجاهلي النابغةُ الذبياني للمُتجرِّدة؛ زوجِ ملك الحيرة النعمان بن المنذر؛ وقد طلبَ إليهِ أن يصفها عندما سقطَ نصيفُها، ما هي إلّا صورة لفينوس أو أفروديت مما شاهدهُ النابغةُ في بلاطِ الغساسنة أو في مكان ما من الأماكن التي زارها في سورية دونَ أن ننفي حدوث الأمر، وما تلاهُ من حنقٍ انتابَ الملكَ على الشاعر بعد ذلك:
سقطَ النصيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَهُ
فتناولتهُ واتَّقتنا باليدِ
بمُخَضَّبٍ رخصٍ، كأنَّ بنانهُ
عنَمٌ على أغصانِهِ لم يُعقدِ
وعاد كثيرٌ من الفنانين المسلمين في العصور الإسلاميّة اللاحقة إلى مقامات الحريري وعلى رأسهم يحيى بن محمود الواسطي، وحكايات “ألف ليلة وليلة”، ورسموا من وحيهما بأسلوبهم (الأرابسك) بخاصة في بلاد العراق، وخطّوا على حواشيها الأشعار والأُدعيات الإسلامية، وفي بلاد خراسان والمناطق المحيطة بها، رسم الفنان المسلم من وحي الشهنامة الفارسيّة، ومن قصائد الشعراء، أمثال عمر الخيام بأسلوب (الأرابسك والفسيفساء)، أو حاكوا رسومهم سجَّاداً نفيساً يعلق على الجدران، مزًّيناً بأشعار العرب والفرس في الحب والعشق.
وفي عصر النهضة وما تلاه من قرون، رُسمت لوحات عديدة من وحي الملهاة الإلهية للشاعر الايطالي دانتي، التي نظمها شعراً في بداية القرن الرابع عشر (1321) م. ومن الفنانين الذين استوحوا أناشيد الملهاة، على سبيل المثال لا الحصر: جوزيف أنطوان كوخ (1804)، الذي رسم لوحة “دانتي وفيرجيلو في الليمو”، مستوحاة من الأنشودة الرابعة من الجحيم، والفنان: جان أجست دومنيك أنجر، الذي رسمَ لوحة “باولو وفرانشيسكا وقد فاجأهما جانتشوتو” عام (1819) وهي مستوحاة من الأنشودة الخامسة من جحيم دانتي. وروبرت جوزيف لانجر الرسام والحفار الألماني، الذي استلهم الأنشودة الثامنة والعشرين من المطهر في إنجاز “فرجيلو ودانتي في الفردوس الأرضي”، وأوجين دولاكروا وعمله المشهور “دانتي وفيرجيلو يقودهما الشيطان فليجياس”.
التاريخ: الثلاثاء25-8-2020
رقم العدد :1010