الملحق الثقافي:د. ثائر زين الدين:
اللوحة التي ألهمت بابلو ميدينا هذه القصيدة – كما أشار هو نفسه – تمثّل عاملاً في الخمسينيات من عمره يقف عند مضخّة البنزين على طريقٍ سريع، وما فعله هو أنه تمثّل حالة العامل واقعيّاً وقدّمها تعبيرياً.. لقد كانت حياة ً كاملةً مع هذا السائل البارد الراكد، الشبيه بحياته نفسها، لكن القابل للانفجار أيضاً بأيّة لحظة.. ومع ذلك مرّت تلك الحياة هادئة ساكنة بقدر ما يستطيع أن يتذكّر ذلك.
إنها حياة تبعث على السأم!!
والاستلهام الأجمل لجوهر العمل الفني نراه في قصيدته الثانية “لاعبو الدومينو”:
“اللاعبونَ مستمرونَ بعمل هذا
منذ عصور، يهذرون بالأرقام،
يرشفون القهوة، والجعة، والمياه المعدنية.
الأصلعُ يشعل سيجارة، والفتى يمر ُّ،
وثالثٌ يتخذ لنفسه مكاناً، يتناول شراباً،
وينفض الرمادَ.
يحاول المتفرج أن يكون لامرئياً، إنه هنا
منذ ما يكفي من الوقت لأن يتعلّم الصمت.
ثلاثة لاعبين يمرّون بتتابعٍ.
الرابع يسيطر على نهايتي الرقعة،
هولا يتباهى أو يبتسمُ، لا
يمدح شريكهُ.
تأخر الوقت. صار للحظّ أن يسير َ
إلى البيت عند الغسق”.
من خلال القصيدة نكتشف قدرة الشاعر على تمثّل عمق إنجازات بول سيزان الفنيّة، التي منها عدم وجود بؤرة مركزيّة للتكوين في اللوحة، سواء هرمية أو على شكل مربع له مركز، بل توزيع الأشياء في فضاء اللوحة بشكل عام، وهذا ما رأيناه في القصيدة أيضاً حين وزّع الشاعر شخصيات اللعبة في فضاء القصيدة؛ بل جعل متفرجاً لامرئياً ينظر إليهم، شبيهاً تماماً بالمتفرج الذي يقف في معرض أمام اللوحة. ومن خلال تركيزه على شخصيات اللاعبين، يذكرنا الشاعر أيضاً بسحر سيزان الخاص المتمثل فنياً بجعل عناصر العمل الفني (الوجوه هنا) مصدر الإضاءة في العمل؛ فالإشعاع ينبعث منها بألوانها الحارة، ولم تعد الإضاءة قادمةً من مصدر ضوئي خارجي. والفكرة الثالثة التي أفادها الشاعر من الفنان هنا تتمثل في الموضوع نفسه، وهو من موضوعات الفنانين الانطباعيين – وسيزان على رأسهم – حيث رأينا هؤلاء يرسمون في الميادين العامة، فيصورون الحدائق والشوارع والمقاهي والملاعب، ولا يقومون بتأليف أو توليف تكوينات معينة، بل يلتقطون تلك التكوينات العفوية الموجودة أمامهم في تلك الأماكن..
وهذا ما فعله الشاعر تماماً!
ومن شعراء الحداثة العرب من حاولَ أن يوظّف اسم الفنان التشكيلي ولوحته بصورةٍ رمزيةٍ بهدف إغناء النص الشعري، ورفدهِ بدلالات تأتيهِ من حقلٍ آخر أو تسهم في شحنِهِ بطاقاتٍ إضافيّة تأتيهِ من خارجه، من هؤلاء الشاعر العراقي سعدي يوسف في قصيدتهِ “قصيدةٌ للجبهة – تحت جداريّة فائق حسن” وهي إحدى قصائد مجموعةٍ تحمل عنوان “تحت جداريّة فائق حسن”، الصادرة عام 1974، وقد أصبحت هذه الجدارية تحملُ اسم “جداريّة فائق حسن”، بعد أن اتخذها سعدي يوسف عنواناً لمجموعتِهِ وقصيدتهِ المذكورتين، وهي معروفة في بغداد باسم “جداريّة الثورة”، وتنتصبُ في أحد جانبي “حديقة الأمة” وتطُلُّ على ساحة الطيران في بغداد غير بعيدةٍ عن “نصب الحُريّة” الشهير للفنان العراقي جواد سليم. أنشئت هذهِ الجداريّة الضخمة من الموزاييك تخليداً لثورة 14 تموز/ يوليو 1958، وقد صوّرت مختلف فئات الشعب مجتمعة ًضمن وحدةٍ مشتركة ساعيةً للبناء والتحرير، وتميّزت بانسجامٍ لوني أخّاذ وبعض اللمسات التكعيبية.
وفائق حسن من الفنانين العراقيين الروّاد، درس الفن في الثلث الأوّل من القرن الماضي في فرنسا وتوفي في باريس عام 1991، وعادَ رماداً في زجاجة بيد زوجته إلى بلده. استخدمَ سعدي يوسف جدارية فائق حسن – التي تدعو بصورةٍ فنيّة إيحائية إلى العدل الاجتماعي والمساواة بين أفراد الشعب، وتقليص سلطات الحاكم، ولمّ شمل الناس في وحدة جامعة – كخلفية للقصيدة؛ أو كشاهدة تعلو ساحة الطيران حيثُ يدور فيها ما هو نقيضُ اللوحة تماماً:
“تطيرُ الحماماتُ في ساحةِ الطيران. البنادق تتبعها،
وتطيرُ الحماماتُ. تسقطُ دافئةً فوقَ أذرع من جلسوا
في الرصيفِ يبيعون أذرعَهم”
وستقدّم القصيدة صورةً مَهينةً لهؤلاء العمال الذين يجلسونَ متأهبين في ساحة الطيران بانتظار المقاولين، الذين يأتون لشرائهم.. وسنرى كيف يقدّم العمال بضاعتهم بطريقةٍ مذلة مُحزنة، وكيف ينتقي المقاولونَ ما يشاؤون كما ينتقي الشاري كبشاً أو ثوراً.. ويستغلون جهدهم حتى أوائل ساعات الليل:
“… سيدي قد بنيتُ العماراتِ.. أعرفُ
كُلّ مداخلها، وصبغت الملاهي..
أعرف ما يجذبُ الراقصين
إليها ورممت مستشفيات المدينة.. أعرف
حتى مشارحها. سيدي.. لِمَ لا تشتري؟…
– أجسُ ذراعكَ
يا سيّدي جُسّها.. –
أمسِ أينَ اشتغلتَ؟
تطيرُ الحماماتُ في ساحة الطيران.. وعينا المقاول
تتجهان إلى الأذرع المستفزة. يدخل شخصان
سيارة النقل.. ثمَّ يدور المحركُ، ينفثُ في ساحة
الطيران دُخاناً كثيفاً.. ويتركُ بين الحمائم والشجر
المتيبس رائحة من شواءٍ غريبة”
وهكذا تمعنُ القصيدة في رسمِ واقع بغداد والعراق عموماً، من الاستغلال والقمعِ والموت، في حين تبقى الجدارية شامخة فوقَ ذلكَ الواقع، راسمة ً الحلم النقيض، وكأنَ الشاعر أراد بذلك أن يمنح حركةً وديناميكية ً للقصيدة، من خلال وضعها بين قطبين متعاكسين مختلفين، دون أن تظهر اللوحة أو مفرداتها في القصيدةِ نفسها.
ويستحضر عبد الوهاب البياتي الرسام الشهير بابلو بيكاسو وبعض مفرداته في قصيدةٍ تحمل عنوان “إلى بابلو بيكاسو” ساعياً إلى استلهام عالمه الغني بالغرائب والمتضادات، ولكن القصيدة تبقى أقرب إلى تهويمات ضبابية تحاولُ أن تقول شيئاً فلا تفلح إلا في التقاط نتف من فضاءات مدريد، والغَجَر، وبعض الملامح العامة في تجربة بيكاسو:
“طعامكَ النارُ وصمتُ البحر والسحر.
غمرتني بالأزرق الدافئ
فاستحالتِ الفرشاةُ في كفي إلى وترْ
الثلج في قصائدي يذوبُ
في حقائب السفر”.
التاريخ: الثلاثاء22-9-2020
رقم العدد :1014