بقلم أحمد نور الرسلان:
منذ اندلاع الأحداث الأخيرة في محافظة السويداء، أخذت الساحات تشهد مشاهد غير مألوفة في تاريخ الحراك الشعبي السوري عامة، وحتى حراك أبناء السويداء خاصة، ففي يوم السبت 16 آب/أغسطس رفعت شعارات تدعو إلى ما سُمّي “حق تقرير المصير”، بالتوازي مع رفع أعلام كيان الاحتلال الإسرائيلي، في خطوة مثيرة للجدل لا يمكن فصلها عن سياقات سياسية وأمنية أوسع تستهدف إعادة تشكيل هوية الجنوب السوري.
رفع أعلام إسرائيل في قلب السويداء رغم أنه لم يكن المرة الأولى، لكنه لم يكن مجرد فعل عفوي من مجموعة أفراد، بل رسالة سياسية تحمل دلالات عميقة، هذه الخطوة تكشف عن محاولة لاستدراج المحافظة إلى مربع خطير، يضعها في موقع مواجهة مع عمقها الوطني، ويفتح الباب أمام اتهامات الانفصال والتواطؤ مع عدو تاريخي لطالما سعى إلى تفتيت سوريا والمنطقة.
كما أن توظيف “حق تقرير المصير” في هذا السياق ليس سوى غطاء لمشروع سياسي يراد له أن يعزل السويداء عن محيطها السوري الطبيعي، لتحقيق أجندات فئات قليلة باتت تتصدر المشهد وتتحكم في مصير الآلاف من أبناء المحافظة الأصلاء ممن كان لهم دور فاعل وريادي في الانتفاضة ضد الأسد ونظامه، ولكن هذه المرة المشهد والساحة باتا لفئة تتملك القرار وتهادن الاحتلال.
التحقيقات التي نشرتها منصة “إيكاد” تضعنا أمام صورة أوضح: لسنا أمام حراك عفوي، بل أمام شبكة منظمة عابرة للحدود، تعمل على ثلاثة محاور متكاملة: اقتصادي، إعلامي، وسياسي، هذه الشبكة تضم شخصيات درزية محلية وسوريين في أوروبا وإسرائيل، وتتبنى خطاباً انفصالياً واضحاً، هدفه تهيئة الأرضية لارتباط مباشر مع إسرائيل بذريعة “الحماية” أو “التنمية”.
ولعل الأخطر أن ما تم الكشف عنه يمثل جزءاً من حملة أوسع ستتكشف فصولها في ما يتعلق بالمجلس العسكري الذي يُراد له أن يكون واجهة أمنية وعسكرية لمشروع الانفصال.
اختيار يوم السبت – وهو يوم العبادة عند الطائفة الدرزية – لتنظيم المظاهرات ليس تفصيلاً ثانوياً، فهذه الرمزية توحي بمحاولة دمج البعد الديني مع السياسي، وتكريس هوية محلية “منفصلة” تسعى إلى تبرير فكرة الاستقلالية، وهو ما يعكس حرص القائمين على الحراك على استخدام الرموز والمناسبات الدينية لتثبيت سرديتهم السياسية.
والسويداء تاريخياً كانت جزءاً لا يتجزأ من النسيج السوري، ولها دور محوري في الحركة الوطنية منذ ثورة سلطان باشا الأطرش ضد الاحتلال الفرنسي، ولكن اليوم، رفع الأعلام الإسرائيلية وترديد شعارات “الانفصال” لا يمثل فقط خروجاً على هذا الإرث التاريخي، بل يشكل طعنة في صميم الهوية الوطنية الجامعة، ويهدد بخلق شرخ عميق بين السويداء ومحيطها.
والأخطر أن المشروع الإسرائيلي يقوم على تضخيم مشكلات المحافظة – من الأوضاع الاقتصادية الصعبة إلى الانفلات الأمني – بهدف دفع الأهالي إلى قبول الوصاية الخارجية كخيار وحيد.
والمطلوب اليوم ليس الاكتفاء بالإدانة أو التخوين، بل مقاربة أعمق تستند إلى معالجة جذور الأزمة في السويداء، من دون استجابة جدية لمطالب الأهالي المشروعة في الخدمات والأمن والتنمية، سيبقى المجال مفتوحاً أمام المشاريع المشبوهة، وهنا تقع مسؤولية مضاعفة على عاتق الحكومة السورية وقوى المجتمع المدني والقيادات المحلية لتجديد الثقة بالدولة وترسيخ وحدة البلاد.
ومما لاشك فيه أن رفع الأعلام الإسرائيلية في السويداء لن يكون حدثاً عابراً، بل مؤشراً على مشروع سياسي يجري العمل عليه بخطوات متدرجة، هدفه النهائي تفتيت سوريا وإعادة رسم خرائطها الداخلية، ومواجهة هذا المشروع تتطلب وعياً جماعياً يعيد التذكير بأن السويداء جزء أصيل من سوريا، وأن محاولات العزل والارتماء في أحضان العدو الإسرائيلي لن تجلب سوى المزيد من الفوضى والانقسام.