الملحق الثقافي:
من الضّرورة بمكان أن نبحث عن الجواب فيما كتبته الدكتورة نجاح العطّار لأنّها الأكثر قرباً من ساحات العمل الأدبيّ والإبداعيّ، والأكثر اهتماماً بهذا الموضوع الذي رأينا سابقاً كيف أنجز كتاب أدب الحرب، مع الروائي الرّاحل حنا مينه، تقول الدكتورة نجاح العطّار في كتابها: ملامح من حياة منذورة للكفاح، الهيئة العامّة السوريّة للكتاب،2019م ص31 وما بعد من مقال تحت عنوان «كيف نكتب أدب الحرب..؟».
والسؤال المطروح بصيغته: كيف نكتب أدب الحرب، قد تخطّى بنا المنزلق ووضعنا على أرض صلبة وجعل من مهمتنا أن نبحث لا في وجود أدب الحرب أو لا وجوده، بل في كيفية إيجاده حتى إذا لم يكن موجوداً، وهذا هو المنطلق الصّائب في رأيي.
غير أنّ أدب الحرب قد كان موجوداً منذ بدأت الحروب وإلى أن تزول، فالحرب متابعةٌ للسياسة بوسائل أخرى، والسّياسة لا تنفصل عن الّثقافة، وهذه جماع التجربة الذهنيّة للإنسانيّة، أو بكلمة أخرى هي الحياة كاملة والأدب من الحياة يمتح ولها يعطي، وبسبب من طبيعته هذه يرتبط بالأحداث ارتباطاً وثيقاً.. إنّه أحد قطاعات النّشاط الفكريّ، ومن ثم العمليّ للبشريّة القطّاع الذي تتجسد فيه بالكلمة صورتها وتتأرخ فنياً أحداثها لتؤدي في وظيفة التوصيل وظيفة أخرى، هي التّغيير وإلاّ كانت صورة ساكنة نردها إلى الذين منحوها ليروا فيها أنفسهم، والنّاس لا يحتاجون إلى أن نرد لهم صورتهم كما هي.. بل أن نضيف إليها رؤيتنا المستقبليّة لها، وبذلك نسهم ُمعهم ومن خلال صورتهم في تغيير الصّورة ذاتها في تلك العمليّة المعقّدة جداً عمليّة الحضور والانتقاء وولادة الجديد من القديم، أو ما هو أحسن ممّا هو أسوأ.
ثم إنّ الأدب، وهذه وظيفته يظلّ يفتقر إلى الوعي بها وإلى ممارستها إذا رعاها، ويتحدد النّجاح في الممارسة بفهم الظّرف الذي تتم فيه وبالقدرة على امتلاك الصيغة الأدبيّة الملائمة لهذا الظرف وليس سواه.
ففي السّلم يتفرغ الأدباء للفنّ، وفي الحرب يتفرغ الأدب نفسه للحرب، يصير جزءاً منها وتعبيراُ عنها أي يكون مقياسه الجماليّ ليس في درجة فنيته فقط، بل في درجة صدقه وحرارته وقدرته على توصيل الحرارة بما تشتمل عليه من انفعال وعاطفة وحبّ وكره ورأفة وقسوة إلى الذين يتوجه إليهم، أي الذين يهدف الّتوصيل الأدبي تغيير صورتهم أو صورة ظروفهم على الأصح.
الاعتراض المتوقّع على هذا الكلام، مصدره الخشية أنّهم يخشون أن ينتهي مفعول الأدب المكتوب حول الحرب بانتهاء هذه الحرب، وهي نفس الذريعة، قديماً وحديثاً، التي يوردونها حول أدب المناسبات. وأنا أسأل: لماذا لم تنته قصيدة أبي تمام بانتهاء فتح عمورية؟
ذلك أنّ فتح عمورية كانت له إضافة في التّاريخ، كما كانت لقصيدة أبي تمام إضافة في الأدب، وليس هذا مجال تقرير من يسّر الإضافة، فالملهم والملهم، كلاهما يشتركان في صنع الإلهام الذي تكون له إضافة في التّراث الإبداعيّ.
وقصائد المتنبي في حروب سيف الدّولة لم تنته بانتهاء هذه الحروب، كلاهما كانت له إضافته، وكلاهما اشترك في صنعها، وهذه القصائد كانت في مناسبات، ولم يضارّ المتنبي، منها، بل كان، في مناسباته، أعظم شعراء عصره.
ولو سلّمنا، جدلاً، بخوف الخائفين من المناسبات، وانتهى ما يكتبون حول الحرب بانتهاء الحرب بالنّصر، أفلا تكون الغاية مما كتبوه قد تحققت؟
أم أنّهم يبنون حساباتهم على خلود كتاباتهم، بأكثر ممّا يبنونها على انتصار أمّتهم، إنّ أدباً من هذا النّوع لا يخلد، لأنّه لا يكون صادقاً لكي يخلد، ولا يكون سلاحاَ في معركة، لأنّ أسلحة المعركة من معدنها ذاته، فحين يكون القارئ في حرب لا يكترث أبداَ بالكاتب الذي يتجاهلها، وحين يكون في درجة معينة من الحرب، لا يكترث بالكاتب الذي يكون على درجة متخلّفة منها، فالقارئ يتطلب صورته في صورة قضاياه، ويتطلب مساعفة كاتبه في تغيير صورته نحو الأفضل، وإذا لم يفعل الكاتب ذلك لا يصل إليه.. يكون قد سقط في باطل مقولة الكتابة لذاته، أو الكتابة لمن يأتي بعده، وهو يعرف أنّه لا يستطيع أن يقرأ ذاته، ولا يستطيع أن يكتب للكتبة أمثاله، كما لا يستطيع أن يكتب لمن يأتي بعده، لأنّ الزمن يبدّل الصورة. وكل عمل أدبيّ يتضمن صورة القارئ الموجه إليه أولاً، ومن خلال هذا القارئ يتوجه الأدب إلى جميع القراء، أي جميع البشر، أمّا التوجه إلى النّاس الذين لن نراهم أبداَ، فإنّه يجعلنا نخسر معاصرينا، ومن يأتون بعدنا، ولن يكون من نتيجة لهذا اللهاث وراء الخلود في الآتي، إلاّ الانتفاء في الحاضر، ومن يكن لا شيء في عصره، يكن لا شيء في العصور التي تليه، فقيمتنا هي في تواجدنا في عصرنا، في بيئتنا، وكفاحنا في هذا العصر وهذه البيئة، وبذلك نكون جديرين بهما، ويكون أدبنا أدبهما، وإضافته أضافتهما، وهكذا نبرهن على أننا حقاً أبناء عصرنا، وأننا أحببناه بنكران ذات،،افنينا أنفسنا فيه ولأجله.
في أيّام المحن وأيام الّنضال لا يستطيع الكاتب أن يكتب على هواه، كما لا يستطيع أن يعيش على هواه، على الصّعيد العملي يلتزم كإنسان بأمته التي تحارب أو ستحارب، وعلى صعيد الكلمة يلتزم بها أيضاَ ويتبنى قضاياها، ويدع ما يرضيه لما يرضيها،وكما يحمل البندقية، يحمل الكلمة، يريدها أن تكون النّار التي تشعل الفتيل، والمهاد الذي عليه يعيش المحارب في الخط ّالأوّل.
أمّا أن يلهو عن ذلك كلّه، وباسم الفنّ، بشكليات الفنّ، ويدع التعبير، متأثراً بتيارات في مجتمعات مخالفة، وأن ينكفئ على الذّات ولا يرتبط بالخط النضاليّ، فإنّه بذلك يحكم على نفسه بالتخلف والضمورة، وقد تخلّف هذا الأدب وضمر وشحب الآن، ولن يبقى معافى من أدب ما بعد حزيران إلاّ ذاك الذي جاوز الأفق المسدود إلى الآفاق المترامية، وتتبع بؤرة الضّوء عبر أكداس من الظّلمة.
وإذا كان النّضال الحقيقيّ، القتال على خطوط النّار، هو الذي أعاد للإنسان ثقته بذاته، فقد كان من واجب الكلمة التي يطرحها الأديب أن تنهض هي بإعادة تلك الثقة.
إنّ حريّة الأديب لا تتعارض أبداَ مع ارتباطه الصميمي بأمّته وقضاياها، بل إنّ هذه الحريّة تصبح أوسع وأعمق بالارتباط بهذه القضايا، وبالتعبير عنها، ونقل شعلتها من ذاته لتتأجج في مواطنيه، وله بعذ ذلك أن يختار الأسلوب الذي يريد لقول ما يريد، وبالأداة التي يختارها، شعراَ، كانت أم نثراَ مقالة أم قصة، بحثاَ أم رواية، على أن يتسم عمله بقدرة كبيرة على التأثير في الآخرين، وأن يشد أواصر المجتمع بخيط ملتهب قابل للانفجار عند الضرورة، وأن يعتمد إيقاظ الوعي والحماسة معاً، وأن يكون فيه من العقلانيّة رصيد، ومن اللهب رصيد، وأن يغني الإنسان وينمّي إرادته في التحرر والتحرير، وروح الفداء، والتضحية ويجعل منه إنساناً بنّاء، إنساناَ حقيقياَ، ولعلّ هذا هو الهدف الذي يسعى إليه أدب الحرب، أو أدب المعركة في ما أفهمه من هذه التسمية.
التاريخ: الثلاثاء6-10-2020
رقم العدد :1015