الثورة أون لاين-هفاف ميهوب:
ذات حوار، سئلت الأديبة والباحثة “نادية الغزي” عن العوامل التي حفّزت موهبتها الإبداعية، فأجابت بعد أن تحدثت مطولاً عن أثر بيئتها وأسرتها ومعالم مدينتها التي سرت في جيناتها الدمشقية:
“تنام أو تسهر دمشق على ضوء القمر، سواء أكان هلالاً زورقاً أم بدراً محاقاً، وتبقى المشيدات التاريخية مضاءة في الليل ليظهر جمالها بالنور.. قصر العظم، حدائق البيوت الواسعة القديمة، الخانات، متحف دمشق، أزقة بالآلاف تتحرك مخلوقاتها ليلاً مخفية أسرار دمشق..
أما العوامل غير الجينية، فتفاعلي المطلق مع كلّ ما هو حولي، مع النفس ومع المعنى. مع الروح التي أشعر بأنها تجبرني على أن أكون دائماً في موقع أي إشارة إنسانية. إشارة لإنسان يحمل معاناة ما. أتبناها وأدافع من خلالها عن إنسانيتي وإنسانية هذا الإنسان، بما أملك، وأنا أملك القلم”..
كلماتٌ لفتتني، في زمنٍ كم نحتاج فيه لقلمٍ يترجم إشارات ورموز البيئة التي تلهم الإنسان وتحاكي موهبته.. يترجمها، متلمساً السبل التي تمكّنه من إزالة ما يتراكم فيه وحوله، من منغصات تعوق حياته وتفاقم معاناته.
نعم، نحتاج لقلمٍ يمدّنا بالأمل والتفاؤل، وخصوصاً في ظلِّ ما نعيشه ويُغرقنا أكثر بالتيه الذي يجعلنا نتساءل: أينكم يا أبناء الضوء تسلطونه على هذا الأفق الضبابي، فتمكِّنون الإنسان من إدراك وعيه والتغلب على ألمه، ومن التمرد على ما يشعر به من عجزٍ كلي؟!!.
سؤالٌ، أدرك بأن من الصعب الإجابة عليه في زمنٍ يلفنا بغوغائيته الثقافية والمعرفية.. زمن النتاجات الغزيرة، والمضامين التي تلوك بعضها ضمن أعمال، كم نأسف لما يرصف على صفحاتها من كلماتٍ غبية، أو غير واعية.
مؤلم هذا والمؤلم أكثر، اختناق فضاءاتنا بأنفاسٍ جاهلة تماهت فيها بعد أن فقدت أنفاساً تنصهر معها لتبدعها.. مؤلمٌ حدّ استقالة الطبيعة، من مهمة الإلهام التي لم تتوقف أبد الإبداع عن إهدائها لعشاق الكلمة المعتقة في بيئتها.
حتماً لا يكفي أن نتألم، بل علينا الإلحاح في سؤال من يدعون بأنهم أصحاب فكر وقلم: متى تنتفضون على جمودكم وصمتكم وعجزكم؟!!.. متى تَنهضون وتُنهضون صوت إبداعكم، ومتى تسطعون فينا بنور وعيكم وارتقائكم؟..
أعرف أنكم لا تسمعون، ولا تقرؤون، ولا تريدون..
لا تسمعون نداء الإنسان، ولا تشعرون بالضجيج الذي يتلاطم فيه وغيب وعيه إلا عن معاناته واحتياجاته. لا تقرؤون إشارات بيئته أو تفكون رموزها، ولا تريدون السعي لمنعه من قراءة ذاته بطريقة أوغلتْ في انفصامها وجنونها وعدمها.
لا تريدون، لأنكم فقدتم إيمانكم بكم بعد أن فُرِّغتم، أو لأنكم حرّفتم أو انحرفتم لغير الطبيعة التي تُلهمكم.. ها هي تعلن عصيانها على من تنكروا لها دون أن يحمدوا عظيم عطاءاتها.. على المثقفين والمبدعين والمفكرين، ممن اتشحوا بصمتٍ لا يرتقي، في هذا العالم الشقي.
ما عرفتم أهمية البيئة ومكانتها ودورها في الإلهام الإبداعي، فما اعترفت بكم ولن يعترف أبداً الإبداع الحقيقي.. لن تسمح بأن تُعرَّفوا بها، فابتعدوا عن نبضها.. ذاك الذي أهدته لمبدعين حقيقيين هم من أثروا الحياة والذاكرة والتاريخ ومنهم، الروائي “حنا مينة” الذي لم تتوقف أبداً عن منحه أسرارها، والذي لم يتوقف يوماً عن فكِّ رموزها وترجمة إشاراتها ومحاكاة إنسانها:
“حرصت في غالبية رواياتي، أن ألتقط الأحداث من المناطق المجهولة تقريباً، في أدبنا العربي. قديمه وحديثه.. مثل البحر والمرفأ والعاصمة والثلج والغابة والجبل والإنسان وغير ذلك.. ما التقطته كان عالماً فككته ثم أعدت تركيبه. عالم وبيئة لهما بعد إنساني يجعل القارئ يقول: إنني أعرف هذه الشخصية.. هي ليست غريبة عني”.