الثورة اون لاين – هفاف ميهوب:
يقول الشاعر والمفكر «أدونيس» في قصيدته «ترتيلة البعث»:
«فينيق يافينيق/ ياطائر الحنين والحريق/ ياريشة/ ساحبة وراءها الظلام والبريق/..
فينيق فينيق متْ.. فينيق متْ/ فينيق ولتبدأ بك الحرائق/
لتبدأ الشقائق/
لتبدأ الحياة/ فينيق يارماد، ياصلاة/..
هي ترتيلة، لم تكن وحدها السبب في قيام الباحث والشاعر المغربي «عبد السلام المساوي» برصد تجليات «الموت المتخيل في شعر أدونيس»… ذلك أن أساطير الانبعاث التي تناولها هذا الشاعر كثيرة، وقد قدمت عنها الكثير من الأبحاث و الدراسات. قدم عنها ماقدمه «المساوي» الذي رأى بأن «أدونيس» كان منفعلاً بأساطير الشعوب، مثلما فاعلاً بها، وبأنه صارع الموت والفناء بلغته الشعرية، متجاوزاً المشاعر والفكر والعالم، برموز وإشارات تصويرية جمالية..
رأى ذلك، مثلما رأى مادفعه للقول عن «طرائق اشتعال الأساطير ودلالاتها-الفينيق أو الاحتراق خلوداً»:
«يستمد أدونيس من أسطورة الفينيق، فكرة إلغاء التناقض في علاقة الموت بالحياة، فهذا الطائر يعبر بسلوكه الحر، وباختياره المراوحة بين الحياة والموت، وبين الموت والحياة، عن التكامل الأزلي بين المفهومين اللذين يبدوان في الفهم الشائع متقابلين.
لقد استطاع بذلك، القضاء على عبثية الوجود، ولما كان اختيار الفينيق للنار مجالاً لتحقيق الانتقال بين شكل وجودي عرضي، وشكل مفتوح على الخلود، فإن ذلك يوحي بأهمية هذا المكون المفتوح بدلالاته، فقد كانت النار مدخلاً أساسياً للمعرفة والكشف منذ أن هربها «بروميثوس» من بيت الآلهة، ووضعها رهن إشارة البشر، فصار الاندماج بها وسيلة لاكتساب خلود أبدي محروس بالنار، جوهر الأسرار».
هذا مايرصده الكتاب، الذي قدمت فيه أدلة شعرية تبرر انجداب «أدونيس» لهذه الأسطورة.. أدلة أولها، قصيدته «البعث والرماد» التي وظف فيها هذه الأسطورة، لخدمة رؤاه الجمالية الواعية.
إنها الرؤى التي سعى من خلالها لخلق عالم لاتهمه مخلوقاته، وإنما عملية الخلق لحياة، كلما توقفت أمدها بالتجدد الذي يرتقي بلغته :
«أحلمُ في يدي جمرة
آتية على جناح طائرٍ
من أفقٍ مغامر»..
نعم، بهذا يحلم لكن دون أن يغفو، فرؤاه دائمة الصحو.. يتمرد على النوم الذي هو «موت صغير» مستبصراً انبعاثه من «الموت الكبير» . انبعاث الفينيق في أسطورته المتجددة، وتجاوز الموت بنشيد الذات المتمردة:
«فينيق، إذ يحضنك اللهب. أي قلم تمسكه؟..
والزغب الضائع كيف تهتدي لمثله
وحينما يغمرك الرماد، أي عالمٍ تحسّه؟.
وماهو الثوب الذي تريده، واللون الذي تحبه؟.
وممَ تعاني حينما تهمد كل خلجة؟.
فينيق مايكون؟..
وماتكون الكلمة الأخيرة.. الإشارة الأخيرة..
هكذا تندمج الذات الشاعرة، بمكونات الأسطورة المشتعلة. الذات بقلمها الذي لايحترق لأنه التواق إلى الخلود، والأسطورة باشتعالاتها التي تميت ومن ثم، تجدد انبعاث الحياة والوجود.
خلود الذات التي تخلخل المألوف وتكسر السائد، ساعية إلى التحليق في فضاء لاتبالي إن احترقت أجنحتها فيه، لطالما تحولت إلى الدهشة والبعث والولادة، فاخترقت كل جمود بائد..
اخترقته، دون أن تتوقف عن ترديد «نشيد الغربة». النشيد الذي لايجد أوفى من الفينيق ملهماً للحياة التي شاءها تحيا قصيدة متجددة:
«للموتِ يافينيق في شبابنا، للموت في حياتنا
منابعٌ.. بيادر…
ليس رياحٌ واحدة، ولاصدى القبور في خطورة
وأمس مات واحد، مات على صليبه..
خبا وعاد وهجه..
من الرماد والدجى..
تأججا
وها، له أجنحة بعدد الزهور في بلادنا
بعدد الأيام والسنين والحصى
مثلك يافينيف، ياحاضن الربيع واللهب
ياطيري الوديع كالتعب..
بالتأكيد، هو موت المرحلة وضبابية فضائها، دون موت القصيدة القادرة على إعادة خلقها.. موت العجز واليأس واليباب والاستلاب، وإحياء الحياة التي هي قصيدة، عصية على الموت والغياب…