الثورة أون لاين – عبد الحليم سعود:
أكثر ما يلفت النظر في السياسة الغربية عموماً هو التذرع والتمترس خلف قضايا الحريات والحقوق والتشدق بحرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان من أجل ادعاء التقدم والتحضر والمدنية، لنكتشف أن معظم الدول الغربية التي تبالغ بالترويج والتسويق لهذه المبادئ والحقوق في مجتمعاتها تقوم بنفس الوقت باستغلالها وممارسة ما يناقضها في مجتمعات أخرى، وذلك لتنفيذ بعض أجنداتها ومآربها الخاصة التي تنطوي في الغالب على رغبات وأطماع ونوايا استعمارية من أجل السيطرة والهيمنة وفرض الشروط والإملاءات، ما يعكس بالضرورة حالة من عدم الاحترام لهذه المبادئ والحقوق عندما يتعلق الأمر بالمصالح والأجندات وحقوق الشعوب الأخرى.
ففي الآونة الأخيرة تعالت الأصوات المسيئة للإسلام والمسلمين في فرنسا على خلفية قيام متطرف شيشاني بقطع رأس أستاذ تاريخ فرنسي بسبب قيام الأخير تحت عنوان حرية الرأي والتعبير بالإساءة لرمز مقدس عند المسلمين جميعاً، وعلى الرغم من أن الجريمة لاقت إدانة واستنكاراً واسعاً في العالمين العربي والإسلامي، إلا أن جهات فرنسية وغربية حمّلت الإسلام والمسلمين عموماً وزر هذه الجريمة المستنكرة، وبدأت حرباً تحريضية علنية ضد كل من يدين بالإسلام، وكأن كل المسلمين قد ارتكبوا هذه الجريمة، في حين أن المتطرف الذي ارتكبها يعيش على الأراضي الفرنسية، ومن المؤكد أنه تشرّب هذا الفكر “القاعدي” المتطرف داخل المجتمع الذي عاش فيه، أي أنه نتاج لبيئته المتطرفة وليس نتاج قيم إسلامية تدعو للسلام والتسامح ويؤمن بها حوالي ملياري إنسان على كوكب الأرض، فلو عدنا قليلاً إلى الوراء في استعادة لبداية نشوء تنظيم القاعدة الإرهابي الذي يتبنى هذه الأفكار المشوهة البعيدة عن قيم الإسلام السمحة، سنجد أن دولاً غربية على رأسها الولايات المتحدة الأميركية هي من دعمت هذا التنظيم وقدمت له كل ما يحتاجه عندما كان يخدم أجندتها في الصراع مع “الشيوعية”، أي أن الولايات المتحدة وأدواتها في المنطقة هم من يتحملون كل النتائج التي ترتبت على قيام هذا التنظيم وليس الإسلام والمسلمين الذين عانوا من جرائم التنظيم وانتهاكاته أكثر مما عانى غيرهم.
ومع بداية الحرب على سورية وقف الغرب بمعظمه إلى جانب التنظيمات الإرهابية “داعش وجبهة النصرة وبقية التنظيمات المسلحة التكفيرية القاعدية الإخوانية” التي تقاتل الدولة السورية تحت عناوين حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير والمشاركة السياسية..الخ، وقدمت فرنسا بالذات وعدد من الدول الغربية نماذج كثيرة من قاطعي الرؤوس والمجرمين والتكفيريين إلى هذه التنظيمات، بعد أن تربوا في أحضان المجتمع الغربي وتشربوا هذه الأفكار المتطرفة التكفيرية داخله – وسجلات دونالد ترامب حول أعداد المعتقلين الملتحقين بتنظيم داعش في سورية تؤكد ذلك – حيث لا يزال هذا الملف موضع خلاف بين واشنطن والعديد من العواصم الغربية، فكيف قبل الغرب بانتهاكات هؤلاء لحقوق الإنسان في سورية والعراق والمنطقة، ودافع عنهم بحجة أنهم معارضة، في حين نجده يقيم الدنيا ولا يقعدها عندما يرتكبون نفس الجرائم في بلدانهم الأصلية، أليست هذه الازدواجية الغربية في التعاطي مع هؤلاء التكفيريين سبباً كافياً لاستمرار خطرهم وإرهابهم وممارساتهم اللا إنسانية، ولعل السؤال الذي يطرح نفسه لو كان الغرب يحارب هذا الفكر المتطرف فعلياً لماذا يستقبل أصحابه وحامليه على أراضيه ويجند إعلامه واستخباراته لخدمتهم عندما يتعلق الأمر بشعوب المنطقة وقضاياها.
لقد شهد تاريخ منطقتنا العربية فترات طويلة من التعايش السلمي والأخوي بين مختلف المكونات العرقية والدينية والحضارية التي اندمجت في المجتمع نتيجة قيم ومبادئ الإسلام الإنسانية إلى أن نشأت العديد من الحركات المتطرفة العنفية إبان الدولة العثمانية الغاشمة، ولو فتشنا عن تاريخ هذه الحركات سنجد أن الغرب هو من قام بتأسيسها لتكون في خدمة مشروعه لاستعمار المنطقة والتخلص من الدولة العثمانية، فحركة الإخوان المسلمين وكذلك الحركة الوهابية هما نتاج السياسة البريطانية، في حين أن تنظيم القاعدة هو نتاج الاستخبارات الأميركية، في حين تتحمل بريطانيا مسؤولية قيام أعتى الحركات الإرهابية في المنطقة والعالم، أي الحركة الصهيونية التي قامت باحتلال فلسطين وارتكبت أفظع الجرائم بحق العرب وحقوقهم ومقدساتهم، فقبل قيام هذا الكيان الإرهابي الغاصب، كان أتباع الديانة اليهودية يعيشون في معظم الدول العربية “الإسلامية” بسلام وأمان ويمارسون شعائرهم الدينية والروحية والاجتماعية بكل حرية واحترام، في حين كان الغرب يعيش أجواء محاكم التفتيش والعنصرية وصولاً إلى النازية والفاشية اللتين ارتكبتا أفظع الجرائم بحق الإنسانية في القرن العشرين.
خلاصة القول لا يجوز للأنظمة الغربية أن تخلط بين الإسلام كعقيدة ودين وبين بعض المتطرفين الذين ينتمون له، وهم الذين تربوا في أحضان الغرب وتلقوا دعمه، وبالتالي فإن استخدام أفعالهم المدانة لتجريم وإدانة أتباع ديانة سماوية سمحة هو جريمة لا تقل بشاعة، فحرية الرأي والتعبير تفرض احتراماً لمقدسات ومعتقدات الآخرين، ولو فهمت شعوب الأرض قضية الحرية بهذا الشكل الفضفاض والمنفلت من عقاله كما يروجها الغرب، لامتلأ كوكب الأرض بالحروب والنزاعات والصراعات الدينية والعرقية، ولما كان بالإمكان أن نحلم بالسلام والعدالة والحرية طالما هناك من يعتبر الإرهاب حرية رأي وتعبير، ومقاومة العدوان والظلم والعنصرية إرهاباً.