الملحق الثقافي:سلام الفاضل :
لا تنحصر أهمية الأدب والدور المناط به على رفع الزاد الفكري لقرّائه فقط، أو ما يمكن أن يحمله من مرادفات وقيم ومصطلحات من شأنها أن تغني اللسان المعرفي لعشّاق هذا المنتج الإبداعي أو ذاك. كما أن الأدب على اختلاف مشاربه وأنواعه لا تقف ضرورته على ما يقدمه من رحلات شائقة، أو معارف جمّة، أو قصص تحمل في مضامينها المتعة والتسلية، وتزجي الوقت بشخوصها، وأحداثها وصراعاتها. ولكن الأدب سواءً أكان رواية، أم قصصاً قصيرة، أم مسرحيات، أم دراسات، أم سوى ذلك مما يطول ذكره، ويختلف شكله قد يساهم بشكل أو آخر في رفد المجتمعات بآخر ما توصلت إليه العلوم في ميدان من الميادين، أو أنه قد يرفع مدارك القرّاء والمتابعين لتطاول حالات لم تألفها، وتختبر معاناة أناس في بلدان نائية.
كما أن هذا الأدب قد يكون استشرافياً واقعياً فيتنبأ بأوبئة وزلازل وبراكين، أو علمياً فيقتحم عوالم كونية موازية، ويتواصل مع مخلوقات فوق أرضية، أو أنه قد يغوص في عوالم النفس البشرية، فيستخرج منها القبح، ويعرض ما قد ينتاب المرء من اختلالات وانكسارات يكون من شأنها أن تَعْدُل سير حياته، وتهبط به نحو أنفاق معتمة ومظلمة، أو اجتماعياً فيعمل على هزِّ مضاجع الأفكار البالية المتوارثة التي ألفها الناس وتواتروا على اتّباعها بغض النظر عن استمرار صلاحيتها وجودتها، فيكون الأدب هنا سبيلاً ينتهجه الأديب رغبةً منه في تحسين صورة مجتمعه، وتطويره نحو الأفضل، ورفع سويته، والسعي به نحو تفتيت عاداته البالية التي قد تنظم علاقات أفراده.
العلاقة المتبادلة
وبالعودة إلى منشأ العلاقة التبادلية بين الأدب والمجتمع نرى بأن هذه العلاقة كانت موضوعاً مثيراً لاهتمام الباحثين في مجال العلوم الإنسانية منذ أقدم الأيام، وقد ظهرت بواكير الدراسات المتعلقة بالمجتمع والأدب بشكل منهجي مؤطر بأطر البحث العلمي في آثار مدام دواستان حيث عالجت فيها تأثير الدين والتقاليد والعادات الاجتماعية والقوانين البشرية على الأدب، كما درست تأثير الأدب على المجتمع والثقافة.
غير أن علم الاجتماع الأدبي قد تطوّر واستقل كفرع علمي جامعي أكاديمي في القرن العشرين. ويعدُّ جورج لوكاتش مؤسس علم الاجتماع الأدبي بحق، إذ إنه درس العلاقة القائمة بين المجتمع والرواية، وتأثير المعتقدات الفكرية عند الكاتب على مواضيع الآثار الأدبية وأفكارها. وتلا لوكاتش في ذلك لوسيان غولدمان الذي تفرغ لدراسة أفكار لوكاتش، ووضع لها مناهج علمية، ورأى غولدمان أن الأثر الأدبي ليس إبداعاً فردياً، بل هو تجسيد وتمثيل لأفكار الفئات الاجتماعية التي تحاول عرض أفكارها، وأن الأديب أو المبدع إنما يقوم بإضفاء جانب فني إبداعي على أفكار الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها.
نماذج إبداعية من الأدب العربي
وقد حفل الأدب العربي بنماذج عدة عمل الأدباء من خلالها على عرض صور لعادات وطقوس اجتماعية بالية رغبة في تحرير مجتمعاتهم من سطوة هذه الحالات، وسعياً منهم إلى النهوض بهذه المجتمعات، ودفعها نحو الأفضل والأجود وذلك عبر ترسيخ قيم حداثوية ومتطورة في عقول أجيال جديدة، وسوقها عبر هذه الإبداعات الأدبية ومن ذلك على سبيل المثال الشاعر السوري نزار قباني الذي سعى عبر شعره إلى تحرير المرأة من هيمنة أفكار متبلّدة، والعمل على تحقيق حضورها بصورة أكثر فاعلية بحيث تكون شريكة الرجل الحاضرة في المنزل والمجتمع، والصنو الذي تماثله في البحث عن العلم والعمل والنضوج.
وكذلك الأديب المصري نجيب محفوظ الذي قدم العديد من الروايات التي تناول فيها طبقات اجتماعية مختلفة في المجتمع المصري، والتي كانت تعاني يومها من جملة من الضغوط الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية رغبة منه في تعويم هذه المعاناة وكشفها، وانتهاء بتداركها وإصلاحها، ومن ذلك روايته (زقاق المدق) التي تناول فيها تداعيات الحرب ونتائجها على الإنسان، ونقل الصراع القائم بين المجتمعين التقليدي والحديث، كما أنه عرض لعينات نساء لسن سوى نماذج من المرأة المضطهدة تحت الضغط الاجتماعي، وغير القادرة على أي تصرف معقول تجاه ما يجري حولها، وذلك بسبب ضعف التربية والتعليم والوعي والثقافة.
إذاً لا تقع على عاتق الأديب فقط مسؤولية البحث عن تجارب إبداعية جديدة لعرضها، أو استحضار أفكار غرائبية وطرحها في نتاجاته الإبداعية، بل إن الأديب بشكل آخر مسؤول عن استخراج نقاط الوهن والضعف في مجتمعه، والعمل على تسليط المزيد من الضوء عليها، وربما تضخيمها في بعض الأحيان، وذلك دفعاً لتغيير طرائق تفكير بعض البشر في هذا المجتمع، وحثّ أفراده على تطوير ذواتهم، وذائقتهم، وأدواتهم تحقيقاً لمواكبة القفزات الحداثوية التي تشهدها المجتمعات الإنسانية بين الفينة والأخرى، وبهدف مواصلة إسهامه في تغيير مجتمعه، ودفعه نحو الأفضل في المجالات كافة.
التاريخ: الثلاثاء10-11-2020
رقم العدد :2020