الثورة أون لاين – عبد الحليم سعود:
من يتتبع مقالات وطروحات وأفكار ما يسمى بالليبراليين العرب في وسائل الإعلام المختلفة وخاصة تلك الممولة من قبل ما يسمى دول “الاعتدال” العربي أو إعلام البترودولار، لن يحتاج إلى كثير من الجهد والبحث والتمحيص لمعرفة الأهداف الحقيقية التي يسعون إلى تحقيقها، وعلى رأسها استنساخ تجارب الغرب في مواضيع الحرية والديمقراطية دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصية المجتمعات العربية وثقافتها وعقيدتها وتاريخها وقضاياها، وكذلك خدمة المشروع الصهيوني الذي يشكل رأس حربة الليبرالية الغربية في منطقتنا، وكأن الليبرالية الغربية وصفة خاصة لإصلاح العيوب المختلفة في الواقع العربي، والارتقاء بالمجتمعات وتحقيق النمو والازدهار وما إلى ذلك، من أفكار وطروحات كذبتها حروب أميركا المدمرة في المنطقة، حيث كانت الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب، مجرد ذرائع لتدمير الدول المناهضة للسياسات الغربية، وقتل وحصار شعوب بكاملها بهدف إخضاعها، كما حدث في العراق وأفغانستان وسورية ومناطق أخرى من العالم.
من المعلوم أن الليبرالية الغربية هي مذهب أو منهج اقتصادي يدعو إلى إطلاق حرية الأفراد وتقليص دور الحكومات في الاقتصاد لأكبر درجة ممكنة، إي إزالة الضوابط على حركة رأس المال الخاص”الخصخصة” ومعاداة التنظيمات النقابية التي تدافع عن حقوق العمال، أي هي شكل من أشكال اقتصاد السوق الحر الذي يضر بالعمال وأغلبية شرائح المجتمع الفقيرة، ولكنها تحولت في السنوات الماضية إلى نظام سياسي يحاول أن يهيمن على العالم ويفرض نفسه بالقوة عبر التدخل بشؤون الدول الأخرى ومحاولة اختراق المجتمعات فكرياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً ولو أدى ذلك إلى استخدام القوة العسكرية أحياناً.
لا يختلف متابعان في أن الليبرالية الغربية الجديدة لعبت دوراً رئيسياً في مجموعة من الأزمات منها الانهيار المالي الذي حدث في عام 2007، وانتشار مراكز “الاوفشور المالية “مراكز مالية تقدم خدماتها لغير المقيمين” حيث يخفي فيها الأثرياء أموالهم بعيداً عن سلطات الضرائب الحكومية، والانهيار البطيء في قطاعات الصحة والتعليم، زيادة الفقر، انتشار الأمراض النفسية والأوبئة، انهيار النظم البيئية، وكذلك الظاهرة الترامبية أي صعود دونالد ترامب.
وقد تبين أن غاية الليبراليين الجدد هو مسخ هوية المجتمعات والانقلاب على الذات وتلميع الفكر الغربي, واستنساخه بدون وعي للمجتمعات الأخرى من دون مراعاة لأي حالة رفض من الآخر رغم الترويج لمفهوم الحرية!.
وفي الآونة الأخيرة ومع تصاعد نغمة “التطبيع” العربي مع الكيان الصهيوني، بتنا نسمع طروحات أكثر وقاحة من قبل ما يسمى بالليبراليين العرب، من خلال الدعوة للصلح مع الكيان الإسرائيلي بشروطه دون أي اعتبار للحقوق العربية، إذ ليس مهماً في نظرهم عودة الأرض أو الحقوق المغتصبة لأصحابها “التعايش مع الكيان الصهيوني كما هو”، وكذلك المطالبة بالتخلص من شعارات تحرير فلسطين والقدس والجولان العربي السوري المحتل، ونبذ فكرة المقاومة من أساسها بحجة أنها مكلفة للمجتمع وغير ذات جدوى، وضرورة السير في نهج التطبيع باعتباره حلاً لكل المشكلات العربية، وما إلى ذلك من أفكار هدامة تخدم المشروع الصهيوني في المنطقة بالدرجة الأولى.
ويمكن القول بكل صراحة إن ما يسمى ب”الليبرالية العربية” باتت السلاح الإعلامي الأمضى للأنظمة العربية غير الديمقراطية وغير الليبرالية، حيث لا تمانع هذه الأنظمة في استخدام الليبرالية وشعاراتها ضد أعدائها في المنطقة ممن ينتهجون فكر وأسلوب المقاومة لتحرير أرضهم واستعادة حقوقهم، وقد سارعت هذه الأنظمة في الآونة الأخيرة “بضغط من واشنطن” إلى وصم المقاومة وخاصة “حزب الله” بالإرهاب، واندفعت بشكل جنوني في دهاليز التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي لم يتوقف عن جرائمه بحق الفلسطينيين ولم يتخلَ عن مشاريعه الاستيطانية ولا عن نهجه العدواني أو أطماعه في الأراضي والثروات والمياه العربية، بشرط ألا يستخدم “سلاح الليبرالية” نفسه لفضح غياب الديمقراطية والحرية لدى تلك الأنظمة الخاضعة لهيمنة واشنطن.
لعل الجميع يتذكر أن الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش كان قد أطلق العنان للخطاب الليبرالي بعد أحداث 11 أيلول مباشرة في وسائل الإعلام العربية، وخصص وسائل إعلام أميركية لبث نفس الخطاب “إذاعة سوا وقناة الحرة” للدعاية لهذا الخطاب، كما صدرت العديد من المطبوعات العربية عن أجهزة الدعاية الأميركية بهذا الخصوص، وتم توظيف العديد من الإعلاميين العرب فيها من أجل الترويج لليبرالية الأميركية الجديدة، بكل ما في ذلك من تناقض صارخ، إذ كيف يستقيم الخطاب الليبرالي المطعم بالقنابل والصواريخ الأميركية التي تستهدف الأبرياء في العراق وفلسطين ولبنان وأفغانستان وسورية واليمن مع وعود الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان..؟!
مما سبق نستنتج أن ما عجزت عنه أميركا وحلفاؤها من فرضه خلال الحرب العسكرية يحاولون فرضه من جديد عبر “اللبرلة” التي تتناقض كلياً مع ثقافة وهوية وعقائد وحاجات المجتمع العربي، ولذلك لا نستغرب لهذه السياسة الفشل إذا تم تحصين هذا المجتمع بالقيم والمبادئ الموجودة فيها أصلاً، إذ ليس بحاجة لاستيراد قيم التوحش والهيمنة تحت عناوين براقة، بحيث تكون سبباً في دماره وخرابه وتقوية أعدائه المتربصين به.