الثورة أون لاين – هفاف ميهوب:
عنوانٌ، اخترته من كلماتِ الشاعر والمفكر والكاتب المسرحي الألماني “يوهان غوته” في قوله عن الشرق: “ما أروع الشرق، فشعراء الشرق أعظم منا.. روحٌ ناريّة متّقدة، تحلّق بجناحي نسر”.
كلماتٌ، هي بعض ما قاله هذا المثقف، صاحب الروائع الأدبية والشعرية الملهمة “فاوست” و”آلام فرتر” وغيرها من الأعمال العالمية. الأعمال التي قدّم من خلالها للفكر الإنساني، ما جعله من أشهر وأهم كتاب العالم، بل وأكثرهم عبقرية.
هذا ما عُرِف عنه على مستوى العالم الذي أدهشته مضامين أعماله، وما فيها من حكمة انبثقت من عمق رؤاه، حتى لذاته الإنسانية التي دلَّ عليها بسؤاله:
“من أنا؟!.. ماذا أبدعت؟!…لقد تلقّيت كلّ شيءّ، وأبدعتُ كلّ شيء، وتمثّلتُ كلّ ما طالتهُ يداي، فنتاجي هو نتاج إنسان جماعي، يحمل اسم “غوته”.
نعم.. هو “غوته” الشاعر الذي قاد خلال القرن الثامن عشر، وفي الوقت الذي كانت فيه ثورات أوروبا في أوج فوضاها واشتعالها، ثورة الفكر والقلم.. الثورة التي أعلن فيها تصوره لعالمّ مثالي، يتوصل فيه الإنسان إلى الحرية عن طريق ما يفكر به ويبدعه، لاعن طريق الفوضى والعنف والاطاحة بالقيم والمبادئ، وسواهم مما لا يرتقي به وإنما يهدمه ويمزقه.
إنه ما أراد منه، الارتقاء بالإنسان فكرياً وثقافياً وحضارياً وأدبياً وإنسانياً.. ما أراد منه أيضاً، تقديم رسالة عالمية تدعو للابتعاد عن الحروب التي كرهها، ولم يفكر يوماً بالتحريض عليها، أو الإشادة بها.
لم يفعل ذلك، لأنه كان رجل سلمٍ وحوارٍ وعلمٍ وفنٍّ وأدب، وهو عالمه الذي وجد فيه ملاذاً آمناً جعله ينتمي إلى العالم بأكمله. العالم الذي لا حدود فيه ولا صراعات أو اختلافات تقتل الإنسان وترديه صريع جهله وتهوره.
لاشكَّ أن استدعاءنا وفي هذا الوقت تحديداً، لفكر وحكمة وإنسانية هذا المثقف العالمي، لم يكن إلا بسبب حاجتنا لمثقفٍ حقيقي.. مثقفٌ لا يتوقف عن تقديم رسائل إبداعية وفكرية واعية، لا تشجع على الحروب والعنف والصراعات والأحقاد، بل على المحبة والسلام واتقاد الفكر بالوعي والأخلاق الإنسانية.
استدعيناه، لأنه كان مثقفاً لم يكتفِ بالاطلاع على آداب بلده فقط، بل على جميع الثقافات والآداب، ولاسيما الثقافة العربية والشعر العربي، وغيرها من ضروب النحو والمعرفة، والفكر الإسلامي.
الفكر الذي قام بدراسته دراسة عميقة، دون أن يتوقف عن قراءة دواوين الشعر والمعلقات والملاحم العربية، وعن إدراج بعض ملامحها في أعماله التي منها “فاوست” الرواية التي أدرج فيها بعضاً من قصائد “المتنبي” الذي تأثر بعده بأبي تمام، ومن ثمَّ بفحولِ الشعراء الذين منهم: مثل امرؤ القيس، طرفة بن العبد، عنترة بن شداد، زهير بن أبي سلمى وسواهم ممن استدعى مفرداتهم وترجم أشعارهم إلى الألمانية.
كلّ ذلك، جعل منه مبدعاً يقيم في كلّ العالم وكلّ اللغات، ولأنه أسكن هذا العالم في داخله، فاكتشف وبعد أن نهل من كلّ الثقافات: “في كلِ بلدٍ هنالك شعراً جميلاً، وأدباً ملهِماً، وبالتالي حضارات مختلفة ومتنوعة جداً”.
حتماً، هنا مركز الوعي. وعيه الذي جعله يتيقّن بأنه: “من الطبيعي أن يختلف جميع الناس في آرائهم ومشاربهم. لكن، دون أن يؤدي ذلك إلى تعصّب أحد منهم لرأيه أو مشربه.
هنا نسأل: أوليس الشرق الذي استلهم منه هذا الـ “غوته” الحكيم، ما أغنى ثقافته وحكمته، الأولى بقراءته والعمل على الالتزام بإنسانية وعقلانية رسالته؟.
بالتأكيدِ هو الأولى بفعل ذلك، مثلما بتصحيحِ كل المفاهيم الخاطئة التي روّجها الأعداء عنه، فقام “غوته” بتصحيحها وبمخاطبة الغرب الذي سعى لترويجها: “إننا لا نفوقهم بشيءٍ على الرغم من تعداد مذاهبنا، ولا يستطيع أحد أن يتقدّمهم في شيءٍ”.
هو قوله الذي رسّخه في كتاباته. تلك التي كان أشهرها وأكثرها تأثّراً بالشرق، مجموعته الشعرية “الديوان الشرقي، للمؤلف الغربي”. الديوان الذي أصدره بعد أن نهل من منابع الحكمة الشرقية، وقراءاته التي نختم باستدعاءِ قوله عن مقدار انعكاسها على أعماله وأقواله الأبدية: “ما أروع الشرق.. اعترفوا بذلك فشعراء الشرق أعظم منّا”.
لا شكَّ أنها رسالة إنسانية قبل أن تكون فلسفية.. الرسالة التي لابدَّ لكلِّ من يقرأها من أن يستدل بها، على أن خير عبقرية:
“خيرُ عبقريةٍ، هي التي تمتصُّ كلّ شيءٍ، وتستوعب كلّ شيءٍ، فالعمل الخلاّق خير المجتمع الإنساني، ومعنى الحياة النبيل، بل وينابيع التقدم والحضارة والرقي”.