الثورة – همسة زغيب:
يكتب محمد عادل الرسلان ليُبقي والده حيّاً في الحروف، ويُقاوم النسيان بالورق، فحين اعتقل النظام السوري والده الطبيب عادل الرسلان، لم يكن قد تجاوز العاشرة من عمره.
بكاءٌ كثير لم يُجدِ، وحزنٌ ظلّ عالقاً في صدره، إلى أن قرأ لاحقاً عبارةً لجبران خليل جبران تقول: “الكتابة دمعة تسقط على الورق”، فقرر أن يبكي بطريقته الخاصة، أن يُفرّغ نفسه من كل الأحزان، ويُخصص داخله للحزن على غياب والده فقط.
ذلك الحزن ظلّ عصيّاً على الورق، لكنه كان على يقين بأنه سيكتبه يوماً ما، يعبّرعن المأساة بالحرف.
استهل الرسلان حديثه لصحيفة “الثورة” بعبارات مقتضبة، لكنها مشبعة بالدلالة.
كان طالباً في كلية هندسة الميكانيك بجامعة دمشق، ويُعد من الأقلام الشابة اللافتة في مجالي القصة والشعر، وله مشاركات متعددة عبر المنابر الثقافية الدمشقية، وأنشطة اتحاد الكتاب العرب في سوريا والأدباء الفلسطينيين.
قلة من يعرفون أن محمد الرسلان من أبناء شهداء الثورة، والده، الطبيب عادل الرسلان، اقتيد قبل ثلاثة عشرعاماً إلى سجون النظام بسبب علاجه لجرحى الثورة وتوفير الأدوية لهم من صيدليته الخاصة.
عانى الرسلان من ضعف في التعبير الشفوي، ربما لأن غياب والده تركه في حالة من الترقب والسؤال المستمر، آملاً كأي طفل بعودته، فكان يُجابَه بالحوقلة من أفراد العائلة، لكن الكتابة الأدبية حررته من الكتمان، ومنحته وسيلة للتعبير.
بدأ حينها بكتابة نصوص قصيرة في كل حفل، وكانت الكتابة طقساً يضمن بقاء والده حيّاً في ذاكرته، واختار أن يكتب عن معاناة الناس، وعن تغييب الحياة بفعل القهر، وعن آثار البؤس التي فرضها النظام البائد على وجوههم وأرواحهم وسلوكهم.
كتب أيضاً عن تفكك الروابط الاجتماعية، وعن العزلة التي تُفرض على الإنسان تدريجياً عبر إفساد الأخلاق وتشجيع الانحراف.
يواجه أدب السجون بالكتابة
يتجنب أبناء المعتقلين قراءة أدب السجون، لأنهم يعيشونه يومياً، ولأن الذكريات المؤلمة تطرق مخيلتهم كلما قرأوا، ومع ذلك، بدأ محمد الرسلان منذ أكثر من عام بتعلم الكتابة الشعرية، وأبحر نحو الأمل، وكتب بعض قصائد الغزل بحثاً عن سلوى، كما طرق باب الهجاء المُبطن في مواجهة النظام المخلوع.
سعى إلى إيجاد عزاء في الحياة الثقافية، ولاقت كتاباته اهتماماً من أبناء جيله، ما دفعه إلى تأسيس فريق أدبي شبابي باسم “بقلم خط الرقعة”، وككل أحلامه، رفض النظام ترخيص الفريق، لكنه استمر في نشاطه رغم ذلك.
من أجمل اللحظات التي عاشها الرسلان كانت في رحاب سلسلة الأدب الساخر، التي أسسها وأدارها الأديب سامر منصور، في مجموعة من القصص تناولت النظام وشعاراته وتناقضاته، وحوّلت بعض مسؤوليه إلى شخصيات كاريكاتيرية تُعرّي أمراضهم النفسية وعنجهيتهم الجوفاء بأساليب مبتكرة.
يقرأ ليقاوم الرقيب
يحب قراءة الشعر السياسي، خاصة لدى نزار قباني وابن الرومي، ويُعجب بجرأتهما، ويرى أن شعر نزار السياسي أهم من غزله، منتقداً الترويج الرسمي لصورته كشاعر غزل فقط، بهدف التعتيم على مواقفه السياسية، وإيهام الناس بأن شهرته تنبع من الغزل الفاحش فحسب.
محمد عادل الرسلان ليس مجرد كاتب شاب، بل شاهد حيّ على مأساة جيل، يحاول أن يكتب ما لم يُكتب، ويمنح الحرف وظيفة تتجاوز الجمال إلى المقاومة، ويُعيد للكتابة معناها حين تكون صرخة في وجه الغياب.
وفي ختام حديثه، قال محمد الرسلان بصوت هادئ يشبه نبرة الورق حين يُكتب عليه الحنين: “أنا لا أكتب لأُشفى، بل لأتذكّر، والكتابة ليست عزاءً، بل وعدٌ بألّا يُنسى من غابوا، فكل نصّ أكتبه هو محاولة لأُعيد أبي إلى الحياة، ولو بحرفٍ واحد، وما دمت أكتب، فذاكرتي حيّة، وذاكرتنا نحن أبناء المعتقلين لا تموت.
“بهذه الكلمات، يترك محمد عادل الرسلان أثراً لا يُمحى، ويُثبت أن الحرف حين يُولد من الألم، يتحوّل إلى شهادة حيّة على زمنٍ لا يزال يبحث عن العدالة.