الثورة أون لاين – علي الأحمد:
هي معادلة ليست بالمستحيلة، أن تكتب موسيقا عربية ابنة زمنها المعاصر، لكن جذورها راسخة وقوية في تربة التراث وتقاليده الأصيلة، التي اجترحتها ذهنية موسيقية منفتحة على نوافذ الحداثة والتجديد المعرفي، من دون أن يكون ذلك على حساب الهوية الوطنية وعناصر الإبداع فيها.
عمر خيرت، واحد من فرسان اللغة البديلة، الذين يكتبون موسيقا عربية حديثة ومعاصرة، بأسلوب تجديدي مغاير، يناغم أصالة موسيقاه العربية مع التقنيات والعلوم الغربية، وهو نجح في ذلك كل النجاح، في وقت فشل فيه الآخرون، لأنه ببساطة شديدة، يمتلك أدواته وتقنياته في التأليف والعزف، يخوض مسير جمالي وذوقي في تجربة موسيقية خاصة جداً ومتميزة، سواء أكان ذلك عبر استخدامه المعرفي للكتابة الموسيقية في الصيغ الغربية الكلاسيكية المعهودة، أم في تناوله المبهر لأفكار تراثية من موسيقاه العربية، يقدمها برؤى معاصرة لا تفقدها خصوصيتها وجماليتها، محاولاً مزج عالمين من الجمال الموسيقي، بكل احترافية، لا ينحاز إلى هذا الطرف على حساب الآخر، قدر انحيازه للموسيقا الإنسانية ودورها الجمالي في الحياة على المستويين التربوي والأخلاقي من دون تكلف أو أي إبهار سطحي وأجوف، ولعل المتابع لتجربة هذا الفنان الاستثنائي، ليجد الكثير من المرجعيات المهمة التي يعتمد عليها في مجمل أعماله الموسيقية التي تفاجئ المرء بأصالتها ونزوعها الدائم نحو الحداثة العقلانية، التي تحمي وتحتمي بهذه الأصالة، ولم يكن ذلك ممكناً، لولا الثقافة العالية والمعرفة الموسيقية التي يتمتع بها هذا العبقري، الذي يدهشنا دائماً بأعماله الموسيقية الساحرة، التي تأخذنا إلى مطارح غير مسبوقة في التلقي والإدراك الجمالي، وخاصة في أعماله الكبيرة لمؤلفات قديمة يتم إعادة صياغتها أوركسترالياً، وإلباسها ثوباً عصرياً، من دون أن تفقد روحيتها وجمالها الداخلي المخبوء، أعمال الموسيقار “محمد عبد الوهاب” و”أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وغيرهم على سبيل المثال لا الحصر، صحيح أنه تأثر كثيراً، بعمه الموسيقار” أبو بكر خيرت “المهندس المعماري، الذي أقام عمارة موسيقية باذخة الجمال، عبر أعماله السيمفونية الكبيرة التي اعتمد في بعضها على العديد من الألحان الشعبية وإعادة صياغتها بتوزيع أوركسترالي مبهر، أعاد إليها الروح والحياة من جديد ، وقد ورث عمر خيرت عن عمه، هذه الروح التواقة لكتابة موسيقا عربية تتسم بالعمق والأصالة المشبعة بالثراء التعبيري، ساعده في ذلك عزفه الساحر على آلة البيانو، رفيقة مشواره الفني الحافل، إلا أنه وبالرغم من هذا التأثر الروحي والوجداني، اختط لنفسه مساراً خاصاً في التأليف الموسيقي الذي يعتمد بشكل خاص، على مخزون التراث والروح الشعبية، والانطلاق منها نحو صياغات اوركسترالية تعتمد كما أسلفنا الصيغ الغربية في التأليف بمشاركة الآلات الغربية “الكلارينيت والأوبوا، والهارب، والساكس و البيانو، وغيرها إضافة بالطبع للحضور الدائم للآلات العربية كالعود والقانون والناي، في تناغم فني وثقافي، بجمع كما أسلفنا، بين عالمين مختلفين من الموسيقا، لكنهما يتحولان إلى روح موسيقية واحدة، بفضل هذا العبقري الذي ساعدته معرفته الموسيقية وموهبته المدهشة في كتابة موسيقا عربية أصيلة في جوهرها وحداثية في مبناها، لتؤكد مكانتها وحضورها الدائم في مسير ومسرى الثقافة العالمية، بما تمتلك من مفردات إبداعية وجمالية خاصة جداً.
من أشهر أعماله المهمة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، أعماله الكبيرة، في مجال الموسيقا التصويرية للعديد من المسلسلات والأفلام “ليلة القبض على فاطمة، ضمير أبله حكمت، ملح الأرض، مسألة مبدأ، وجه القمر، سنوات الشقاء والحب، البخيل وأنا، اللقاء الثاني، صابر ياعم صابر، مكان في القلب وغيرها.
أما في السينما، فتبرز موسيقاه، كمحطة مهمة في تاريخ السينما العربية بما تمتلك من قوة مذهلة في التعبير والتصوير الدرامي، كما نرى في” دم الغزال، الرهينة، السفارة في العمارة، حب البنات، سكوت ح نصور، النوم في العسل، زمن الممنوع، نهر الخوف، إمرأة مطلقة، خلي بالك من عقلك. الرؤيا، قضية عم أحمد، عفواً أيها القانون” وبالطبع لا ننسى في هذه العجاله عمله البديع “العرافة والعطور” وموسيقا “الرابسودية العربية” وقائمة طويلة من الأفلام التي وضع لها هذا الفنان خبرته المديدة في التأليف الموسيقي، والتي لاقت الكثير من التقدير والإشادة من قبل النقاد وجمهوره العريض في مصر والبلاد العربية والعديد من البلدان الأوربية التي عزف في أرقى مسارحها، وباتت موسيقاه من ضمن الأعمال التي تقدمها الفرق السيمفونية هناك، وقد تم تكريمه على مجمل أعماله الموسيقية من قبل الكثير من المهرجانات وشهادات التقدير من جهات ثقافية محلية وعالمية، “مهرجان قرطاج السينمائي، دائرة الفنون الجميلة بمدريد، احتفالية الثلاث حضارات بمورسيا بأسبانيا، أوبريت تل العمارنة، احتفالية مرور ١٠٠ عام على السينما المصرية، العيد الوطني لإيطاليا، موسيقا افتتاح سكندريات العالم، قرعة كأس العالم للشباب وغيرها. نعم، يمكن كتابة موسيقا عربية بروح عالمية، لا تتنكر لماضيها وخزينها الإبداعي، موسيقا بديلة للسائد المعمم في المشهد المعاصر، بدأت مع هذا الفنان وغيره من فنانين كثر، تُغني وتُثري الذائقة العربية التي أنهكتها الأغاني السائدة التي يفتقد أغلبها للجودة والقيمة الإبداعية، وهي موسيقا تحارب الإسفاف والانحطاط الفني السائد، لأنها ببساطة مكتوبة بحبر إبداعي مائز، يكتب الجمال والحياة، يقرأ دواخل الإنسان العربي، بكل ما تملكه من تعبير درامي وتصوير وجداني، دائماً ما تسعفنا وتمنحنا كل الأمل في غدٍ موسيقي عربي، أكثر إشراقاً وجمالاً، وحضوراً فاعلاً ومثمراً، في مشهد الثقافة العالمية ككل، الذي يعاني كما هو معلوم، من ندرة الإبداع والجمال، في عصر حضارة البلاستيك والضغط على الأزرار!.