في كل عام نحتفل بأعياد مختلفة، وحتى إذا ما جاء آخر العام اشتعلت احتفالاتنا التي تتجدد معها أمنياتنا بأيام قادمات تتحقق فيها الأحلام، وتنسحب منها الآلام، والخيبات.. وها أنا الآن تأتيني المقارنات بين ما مضى من أعوام، وأيام هذا الزمن الثقيل التي تباغتنا لتنزع من بين أيدينا بهجة أفراحنا الصغيرة كمجتمع إنساني واحد، بعدما أصبح يحكمنا مصير واحد اجتاحنا جميعاً رغم تفرّق قاراتنا، وما يفصلها عن بعضها بعضاً من بحار، وجبال من صخر، أو من جليد.. وأسترجع في الذاكرة تلك اللحظات التي كان فيها العالم يطلق صيحات الفرح مع أنوار ابتهاجه في لحظة واحدة عندما تتعانق عقارب الساعات معلنة وداع سنة، واستقبال أخرى جديدة.
لكن أنوار هذا العام لن تشتعل كسابق عهودها لتصمت فيها ليالي أعياد الميلاد، ورأس السنة، حتى في بيت لحم مهد السيد المسيح.. فالكنائس ستغلق أبوابها، ولن تسطع أنوارها، أو تصدح ترانيمها، على غير عادة في مثل هذه المناسبات المهمة.. أما المعارض السنوية، وأسواق العيد فهي خالية من المتسوقين.. وكذلك هو حال الساحات العامة، والميادين، إذ لن تقام فيها المهرجانات، ولن يتوافد إليها الناس من البلدات، والقرى المجاورة، بينما ينضم إليهم من أصبح يعيش وحيداً دون أسرة تدفئ حياته، وهو يبحث عن رشفة محبة ينتظرها في هذا اليوم.. فقد غابت عن تلك الأماكن أشجار الميلاد المضاءة بالألوان، والمزدهرة بالزينات المعلقة على الأغصان، مع مظاهر الاستعداد لاحتفالات العيد، وكانت فيما سبق تتهيأ له قبل أسابيع من قدومه كموسم للبهجة يحتفل به العالم أجمع شرقاً، وغرباً، وفي أي مكان.. والتقاليد السائدة لدى كل مجتمع في مثل هذه المناسبة تنتعش لتذكّر بما اعتاد عليه كل شعب من الشعوب من طقوس الاحتفاء، والاحتفال.. والناس يستمتعون بالزينات، وبالأضواء الزاهية المتلألئة، وبالهدايا التي يتبادلونها فيما بينهم تودداً، وتأكيداً لروابط الصداقة، والقرابة، في تجمعات للأصدقاء، وللأهل، والجيران، والأقارب من كل الدرجات والفروع مع الأصول، فتقام حفلات الرقص، والموسيقا، ومنهم من يرصد الميزانيات من المدخرات لمثل هذا اليوم حتى لا تفوته فرصة المرح، والسرور، وهم يستعرضون تراثهم العريق الذي يخبئونه لهذا الحدث الاحتفالي الكبير.. والسبب في ذلك مفهوم، ومعروف إذ تعلن عنه جائحة العصر التي وصلت كما يعلنون إلى أبعد نقطة على الأرض في القارة القطبية، بعد أن أصرّ مسببها على أن يبدل وجهه في هذا التوقيت بالذات، ويصبح أكثر شراسة في مهاجمة مضيفه.
أما رجل الثلج بقبعته الحمراء، والذي يظل مختبئاً طوال العام، فهو يصرّ على أن يكون حاضراً حيث تسقط الثلوج حتى لا تفقد أعياد الميلاد روحها، ووجهها الحقيقي.. وكذلك يفعل (بابا نويل) وهو يقف محافظاً على مسافة من التباعد يوزع على الناس كمامات الوقاية، بينما نظيره في عالم الافتراض، وقد ازدادت أعداد من ينتحلون شخصية هذا الرمز، يطل برأسه عبر نوافذ الأجهزة الذكية مهنئاً العالم، متمنياً له السلامة.
وأتذكر واحدة من قصصي الموجهة للأطفال (عشاء على الهواء) قبل أكثر من عقد من الزمن عندما توقعت أن يصبح اللقاء عبر الفضاء، أو الهواء لا فرق، المهم أنه اللقاء في احتفالاتنا، واجتماعاتنا العائلية.
وها نحن دون استسلام، أو إحباط، ودون قيود من احتراز، وتباعد، سنفعل حتى لا نفقد متعة الاحساس بالصلات بيننا، وببهجة الأعياد تزورنا.. بينما نردد لأنفسنا ماذا كنا سنفعل لولا هذه الوسائل الحضارية المتاحة لنا ونحن نطفئ شمعة سنة تنقضي بعد أن خيّبت آمالنا التي استقبلناها بها؟
وننظر بعين اللهفة، والأمل، والتفاؤل إلى عام قادم يحمل الرقم واحد في سلسلة العشرينيات من الألفية الثالثة من أوراق التاريخ، رغم انطفاء أضواء الاحتفال في استقباله بسبب عقوبات الطبيعة التي وقعت علينا، ونحاول أن نتخلص من حلقاتها قبل أن تحكم قبضتها حولنا في الدوائر الضيقة، والمتسعة بآنٍ معاً.. فأعيادنا ستظل قناديلها مشتعلة في القلوب، وعبر وسائل التواصل، ولو غابت عن شوارع المدن، والعواصم.. وسنحتفل جميعاً في أفق واحد نحطم فيه حواجز العزلة، ونكسر المسافات بين المطارات كما لو أننا نحلق بجناح طائر نتجاوز معه سنة لم تخل من الصعوبات، فلا يعود يهم عندئذ أن تنطفئ في المدن أضواء الاحتفال ما دامت أضواء الأمل في النفوس متقدة كما شجرة الميلاد المبهجة.
(إضاءات) ـ لينـــــــا كيــــــــــلاني ـ