الملحق الثقافي – علي الأحمد :
«أيتها الموسيقا، أهلاً بك على هذه الأرض، في دار هجرتنا الدائمة».
«أدونيس»
في عصرنا الضنين بالإبداع، الذي يخلو من الوسامة والجمال الروحي، يبحث المرء جاهداً عما يعوّضه ويعيد إليه توازنه واتزانه النفسي. يبحث عن القيمة الإبداعية المنشودة، وسط حطام وركام لا ينتهي من الأعمال الفنية السائدة. نتاج متاحف القبح العتيدة، التي يرتدي فيها المدّعي قناع المبدع الحقيقي، في انهيارٍ كبيرٍ لجوهرِ ومغزى الفن، في عصر السلعة وحب التملك، وتشيُّؤ الإنسان المعاصر، المحاصر بكل أنواع الاستهلاك السفيه الذي تكمن خطورته في نتائجه المحتومة: اختفاء وزوال الإبداع، وموت ونهاية الثقافة كلها.
لا جديد، إنه مسار العولمة، القديم المتجدِّد. عولمة الرداءة وتسطيح العقل، وذبول الروح، وكل هذا الطوفان الهائل من الابتذال والعُري الأخلاقي الذي يجتاح العالم كله، عبر تمجيد السوق والكَم، على حساب القيمة الابداعية وقيم الجمال المنشودة، وكأن الفنون فقدت روحها وانطفأ حضورها المضيء، في قراءة عالم الإنسان وإغناء ذائقته وإدراكه الجمالي. وكأن «الدادئية» وتحطيم الأصول والقواعد، وحركات تدمير الموسيقا، أصبحت قدراً لا مفر منه، ومن المهم القول هنا، أن كل هذا الخراب والانحطاط السائد قد قام مع كل أسف، على أنقاض كل ما هو جميل وأصيل ونبيل، في هذا الفن المُضيّع، حيث تسلل إليه هؤلاء المخربون وعاثوا فساداً وهدماً في بنيانه، بحجة التجديد وإعادة البناء ومواكبة العصر وو.
نعم، تختفي القيمة والإبداع في أكثر نتاجات هذا العصر، وفي كل موسيقيات الشعوب، حتى في تلك البلدان التي تمتلك تاريخاً وإرثاً عظيماً من الأعمال الكلاسيكية الكبيرة، وبكل أسف نقولها، لم يعد هناك شيء نقي في هذا العالم، الذي تتحكم فيه الغرائز المريضة، وثقافة الجميع. أي ثقافة «لا أحد». إنها حمى التقليد والتغريب والسير الأعمى في متاهة هذه المنظومات الماكرة المخادعة، التي تبحث عن المنفعة، وكل ما هو مادي رخيص. تسعى بشكل فجٍّ وسطحي، إلى إعلاء حب الشهوات والتملك والاستهلاك المريض لدى الجميع، وترى أن لكل شيء ثمناً، على حساب كل ما يثري عالم الإنسان ويحقق له إنسانيته ودوره العظيم في الحياة. هل نحن بحاجة إلى ذكر وسوق الأمثلة على هذا الانزياح التربوي والأخلاقي، في هذا المشهد الكارثي العبثي؟. بالتأكيد لسنا بحاجة، فالأمثلة على ذلك ماثلة أمام أعيننا، تطاردنا من «الفجر إلى النجر» كما يقال، وكأن العالم فقد رشده وعقله، وأصبح تمجيد الآلة ومكننة الإنتاج الفني، البديل والمعيار الجديد، للتحضر والرقص على إيقاع العصر.
لقد نسي هؤلاء المتغربون أو تناسوا، أن الحداثة والتجديد المعرفي في الموسيقا وحتى في كل الفنون، شيء، والتحديث والتقليد شيء آخر تماماً، فقد يكون هناك تحديث ولا يوجد حداثة، وقد يكون هناك تجديد في الشكل والمظهر ويبقى المضمون والجوهر كما هو. التحديث المنشود لا يكون باستيراد التقنية والأدوات والتكنولوجيا وغيرها، وإقحامها في روحية ومتن النسيج النغمي الموسيقي إقحاماً بشكل فيه الكثير من الفرض والإكراه والهيمنة، ولنا في التجربة المعاصرة خير دليلٍ على القصور المعرفي في فهم جوهر هذا التجديد، الذي تفّهمه البعض، على أنه تقليد واستنساخ الآخر كما هو، من دون إدراكٍ لخطرِ هذا المسار على مفردات الهوية الموسيقية الوطنية، فالحداثة هي رسالة نزوع نحو ذلك الضوء الجمالي البعيد، الذي يُخرج هذا الفن من جموده وسكونيته، عبر اجتراح لغة إبداعية مغايرة للسائد المعمم، وكل مبدع في النهاية هو حداثي بكل تأكيد، وكل مقلّد هو ضد الحداثة، حتى وإن قلّد وأدّعى الحداثة نفسها.
حتماً تعيش الفنون أزمة تغريب وتقليد لا تنتهي، تبحث عن زمنها الإبداعي المفقود دون جدوى، تتوسل القيمة وجوهر الجمال عبثاً، تصارع على إثبات وجودها وحضورها في عصر اختلاط القيم وانعدام الدور المنشود، إنه الإخلاص للفن وجوهره في بناء وارتقاء الإنسان وتجميل الحياة، بكل ما هو أصيل وجليل، والجليل في الفن يُبهج الناس جميعاً وفي كل العصور، كما يرى « لونجينوس Longinus « إخلاص ممزوج بالوفاء والاحتفاء الدائم بالقيمة بعيداً عن كل ما يشوه وجه هذه الحياة التي تستحق أن تعاش ملء القلب والروح، ولطالما اقترن مسار الفنون عبر العصور، بين التأصل في العراقة الكلاسيكية، والانفتاح العقلاني المعرفي على نوافذ الحداثة، رؤية وممارسة، وكل ذلك يتأتى على الدوام، من البحث الدؤوب والتساؤل المشروع، وطرح الأسئلة القلقة التي لا تنتهي، حول مغزى وجوهر هذا المسار الثقافي المنشود، بما يضمن ويؤكد تجذير هذا الدور والبُعد الرسالي للفن في عالم الإنسان، بالرغم من كل المآسي التي تحيط به، فدور الفن وكما يؤكد الفنان العالمي «فان جوخ» هو أن يواسي من كسرتهم الحياة.
نعم ولحسن الحظ، هناك وعلى الضفة المقابلة ثمة فرسان حقيقيون، وفي كل موسيقات الشعوب، ينتمون الى تربة وطين هذه الفنون البديلة. إلى الموسيقا الإنسانية العظيمة التي لا تموت، يحاربون الإسفاف والانحطاط «ما استطاعوا إليه سبيلا»، بالرغم من كل الحصار الخانق على منتوجهم الإبداعي إنتاجاً ونشراً وإعلاماً، وهم يؤمنون إيماناً مطلقاً، أن الفن الحقيقي هو ابن المعاناة ونزيف الروح المستمر، في البحث عن الذات وتكريس الشخصية والهوية الثقافية، في صراع أبدي لابد منه، بين الإبداع والإتباع، بين الجمال والقبح، بين الأصالة والتغريب. أي ما بين الأكثر سمواً إلى الأكثر ابتذالاً، وفي النهاية، بين هؤلاء الفرسان النبلاء الخلاقين، وبين هؤلاء المتغربين التابعين الخانعين.
وعن تبعية المتغرب، يقول المفكر «جلال آل أحمد»: «.. أنه سهل القياد، بلا جذور، لا قدم له ولا أساس في ماء هذه الأرض وطينها، وللسبب نفسه يطفو المتغرب على الموج، وليس ما تحت قدمه صلباً، وللسبب نفسه لا يكون صاحب موقف واضح أبداً، إنه لا يستطيع أن يأخذ موقفاً في مواجهة أي قضية أو أي مشكلة، إنه مطيع لكل أمواج الحداثات، لا يناقش أي شيء، ولا يصطدم بشيء، يعلم أن الريح تهب كلّ آنٍ من صوبٍ ما، ودون أن تكون في يده بوصلة. المتغرب لا مبالٍ، هو إنسانٌ التقاطي، يأكل خبزه بسعر زمنه، يستوي عنده كل شيء..
باحث موسيقي
29-12-2020
رقم العدد 1026