الملحق الثقافي:
عندما يكون صوت الشعر، هو الصوتُ المتمرِّد على العالمِ وبشاعته، لابد أن تكتبه الأبجدية الأولى بأحرفٍ يمتنُّ لها ويرصّع بها، غلاف ديوانٍ حملَ من بوح القصيدة العاشقة، ما كان خالص العناقِ للأنثى – الأرض، التي جعلها نبض الحياة في كلِّ كلمة من كلماته.
إنه «صوتُ كرَّاز الجبل».. صوت الشاعر «قصي ميهوب» الذي مثلما اعتدنا على عمقِ الرؤى في قصائده، اعتدنا على بلاغة المعنى الذي عنونَ به «ستة عشر» ديواناً من الدواوين، التي نقرأ فيها حكمته:
في «غربتي العذراء» تأمّلتُ «فاجعة الرحيل».. لا شيءَ لي وبي، سوى «الريحان» و»صهيل القمح» و»أراجيح الوتر» وشدو الصمت يحمدُ الحياة، ويستعيذُ بكلِّ من يتربَّص بها.. الخائن والغادر والجاهل والعميل.
تأمّلتها بأناي، فسمعتُ صوت عقلي وهواي: «عندما ينزف الصخر» ويدلهم العقل والفكر «لا تدر ظهرك للشمس» فإن «مات الشعر.. قام».. قامَ واستقام بأمرِ «حطَّاب الجنون» والفنون.
لبَّيتُ ومضيت، «على الضوءِ أمشي» ساعياً إلى «سهرة على سطح القمر».. شربتُ نخبَ أنثى الأرض، وأنا «أتلو الأرض امرأة» أطاح كأسها، بـ «كأسك يا جمل».
أطاح بكأس الخيانة والفتنة الجائرة، فاغتاظ «الكلب الأطرش» وأخذ بالنباح في دروبه الحائرة.. شارك الثعالب ترقبهم الغّدار، وسعى وإياهم لوضعِ «القمر على مائدة القمار».
فجأة.. جَفل، فقد داهمه «صوتُ كرَّازِ الجبل».. داهمهُ وقارعهُ، بـ «عاشقة الفهد الأسود».. أرداه ذليلَ الذات، وطعنهُ بالكلمات: «الواثقونَ بلونِ الشَّمس.. سكناهمُ أبداً على سطحِ القمر»..
/همْ غارقونَ بوهجِ النُّورِ في التنُّورِ/ ونحن نمشي بلا غرقٍ لأننا الغرقى/ في أبحارِ ديجورِ/ في ظلمةِ الدجَّال والجُهَّال والعُورِ/ فمتى يلامسنُا الظلام في قاعِ ظُلمتنا/ لنوقنَ أن فجراً سوف يهطلُ من أعالينا علينا؟؟/ فالليلُ مهما اشتدَّ لابدَّ يمحوه النهارُ/ أيهجُرنا السوادُ القاتمُ القارُ؟!/ ونصعدُ سلّمَ الياقوت والمرمر، ونسكرْ/ بأنوارٍ مطهَّرةٍ على خمرٍ مُطهّر/ وأنتَ أنتَ ترانا أيها القدرُ/ كأنَّنا في صراعِ العمرِ نحتضرُ..
يا الساهرونَ العاشقونَ الآتي/: سرُّ المحبَّةِ بين الذاتِ، والذاتِ/ والسرُّ أنثى من السَّهرِ/ فيا قدراً علا قدري/: ما سرُّ عاشقةِ الفهودِ السّودِ؟؟/ ما سرُّها تلك التي لم يعرفِ اللَّه/ عاشقُها لولا رآها، وروحه تتقلَّب؟؟/ ويأتينا صدى صوتٍ من صدى الغابِ/ يا أيّها البشرُ الزناةُ من الحضورِ إلى الغيابِ/: الفهدُ لا يسعى إلى احتجابي بالحجابِ/ ولم يأمر بذبحِ فهدٍ أرقطِ اللونِ/ فلا يُقصيهِ بالتكفير، والتهجيرِ، والقتلِ/ ولم يحمل بمخلبهِ سجاجيدَ البطاحِ/ ولا يدعو إلى جهادِ النكاحِ/..
هكذا يعبُّ الشاعر من كأسِ قصيدته، فيهزم كلّ من تجرأ على مواجهة نورِ فكره وسوريته.. يعبّ من قلبها الحياة، فيهذي صحواً بأن «الإله المجهول» هو من جعله يقول: «هذا العصرُ ملكُ العبقرية لا ملكُ الخرافاتِ».
/أنا رأسُ آلهةِ الخصوبةِ/ ليس يُدركني الخيالُ/ من كَرمتي الكرَّامُ قامَ/ والخمَّارُ والنحَّالُ/ أنا قطرةُ الماءِ/ بين مريامَ وصافونَ/ ويبدأُ الشَّلالُ/ خبَّأتُ أفراحَ الجبالِ/ ببارقةِ الرعودِ/ فارعدي يا جبالُ..
هو.. هي/ هيَ.. هوَ وبينهما/ أنا الفراقُ والوصالُ/ أنا نطفةٌ في رحمِ امرأةٍ/ يحارُ في فيضها الحبَّالُ/ أنا لستُ هوَ/ يباطنهُ احتمالٌ/ يظاهرهُ احتمالُ/ ولستُ هيَ/ حين يُشعلها انطفاءٌ/ أو حين يطفئها اشتعالُ/ هوَ أنا هيَ/ في لحظة الخلقِ/ انّصالٌ لا انفصالُ../..
كل هذا، وكراز الجبل لا يتوقف عن لملمة دررِ القافية الحكيمة في مسعاها، والشاعرة في جدواها.. لا يتوقف، عن إطلاق مفرداته المكتملة فكراً وعمقاً ونبضاً، فالمفردات لديه آلهات مكتملات، و»المرأة الناقصة لا تُنجب رجلاً كاملاً»..
إنه البوح الصارخ تارةً، و»البوح الصامت» تارة أخرى.. صامتٌ في تفكُّره بحضور الأنثى الكامل.. أمٌّ وحبيبة وزوجة وشقيقة، للـ «الغائب الحاضر».. الحاضرُ في زمنٍ أدمته المحن.. «الجندي المجهول، وهو تجلٍّ من تجلّياتِ الوطن».
/السَّاهرون على الجراحِ مقامُهم/ كمقامِ مريمَ ساهرتْ آلامها/ لما تبدّى على الصليبِ مغرِّداً/ من كان يكرزُ في الحياةِ أمامها/ قام الذي بدمائها نوراً بدا/ وغفتْ فأشعلَ خمرها، وأقامها../..
«صديقي القارئ».. باختصار، هو صوتُ الشاعر العاشق.. ستجدُ المعنى في مقدمة مجموعته، ونقرأ منها بعض فلسفته:
«دع العشاق يكتبون الشعر!!..
عشق الشعر يختلف عن شعر العشق، فاعشق الشعر كي تكون جديراً بكتابة العشق، ولا تبخس حقوق العشق، وتظنُّ أنَّ تجميع الكلمات وصفّها ضمن شكلٍ معين، يعطيك صفة الشاعر العاشق.. فالشعر معاناة.. الشعرُ صراع.. الشعر شقاء.. الشعر قضية وجود أو لاوجود.. الشعر هوية.. الشعر عشق.
والشاعر العاشق يحملُ رأساً ليس مِلكه.. إنه مِلكُ المدى الأزرق.. مِلكُ اللاحدود.. مِلكُ نواميس الأثير.. مِلك العبقرية.. مِلك الوعي الكوني فيه، وعليه فالعشق هو الذي يدفع الشاعر، ليكون كجوارح الطير، ثروته جناحين واهباً نفسه للريح..
وأنت.. عندما تدرك سرّ العشق، ستدركُ جواهر المعنى، وستدرك أن كلمة «الله» اشتقَّها شاعر عاشق، من كلمة «الإله» عندما حذف «الألف» من وسط كلمة «الإله» فأصبحت على هذا الشكل «الـ له» ولشدَّة عشقه الجامح، دمج اللامين فاكتشف سرَّ الأحد، وكان اسم «الله» كأرقى أسماء الخالق المعروف بها عبر التاريخ…»..
هكذا، كان «صوت كراز الجبل» يُنشد الحياة ويعزفها ببلاغة الصورِ وقوة التعابير. كان أيضاً، يروي حكاياها المتمردة والعاشقة، والحزينة والمتألمة والمتألقة، وعبر قصائدٍ زجلية أسماها: «حكي عصافير».
عن «صافون.. مريام» والنور الذي قام:
/بين الجبل والبحر كمشة حكايات/ تحكي معاني سوريا الكبرى/ ومع كلّ حبّة قمح عشتار وعناة، موعد قصيدة وشاعر وفكرة/ وبعل صافون يا مغربل الغيمات/ لعيونك النور قام، وقامت العدرا/..
أيضاً، عن «ديك الشعر» ومن ثمَّ «أكتاف الصخر»:
وكان العشقْ لقمة خريف نضيف/ صرنا الوجع عم ناكلو حافْ/ جفُّوا الدموع بخاطرك يا رغيف/ «يلي سمع مو متل يلي شاف»/ يلي سِمِع قول وقال عن قيل/ وانقتلْ يلي شاف واقف وما خافْ/.
هذا هو «صوت كراز الجبل».. الديوان الصادر عن «دار بعل» للطباعة والنشر، والذي قام «الأبجر نهرويو» خبير اللغات السورية القديمة، بكتابة اسمِ الشاعر بالأبجدية الأولى الأوغاريتية والسريانية، على لوحةِ غلافه.
29-12-2020
رقم العدد 1026