الثورة أون لاين – د.عدنان عويد:
الأسير هو من فقد حريته، وخضع لقوى أخرى مادية أو معنوية راحت تفرض عليه إرادتها، وفق ما تريد هي وما ترغب.
وإذا كان الأسير في شكله أو صيغته المادية، يسجن ويخضع لقوانين السجن وأعرافه، فإن سجين الأيديولوجيا هو من قيدته الرؤى والأفكار، أو الأيديولوجيات المغلقة بسلطاتها أو مصالحه الأنانية الضيقة، ممثلة هذه الأيديولوجيا برموزها وطقوسها وقوانينها وتعاليمها وعقائدها، إلى درجة لم يعد الأسير فيها، قادراً على التفكير والحركة في حياته إلا وفقاً لهذه السلطات.
عموماً، إن أسرى الجسد “الأسر المادي” قادرون على التحرر من أسرهم، بهذا الشكل أو ذلك، قد يكون بعفو أو فدية أو تبادل أسرى، وغير ذلك. أما أسرى الأيديولوجيا، فهم مقيَّدون في عقولهم بسلاسلٍ من الوهم والخيال والخرافات والأساطير والنرجسية، وامتلاك الحقيقة المطلقة وحدهم، إلى درجة لم تعد فيها القدرة على تحريرهم، إلا بعمليات غسل عقول يشرف عليها مختصون في علم النفس، وعلى درجة عالية من القدرات المعرفية، وخلال فترات طويلة.
ما يهمنا هنا في الحقيقة بالنسبة للأسرى، أسرى الوهم أو الأيديولوجيا، الذين تحوَّلوا بقيودهم العقلية التي فرضت عليهم من قبل سدنة المعبد، والحقيقة المطلقة ومستبي السلطة، أو هم من فرضها على نفسه بإرادته بعد أن اتَّخذ من ثقافته ونفسه، سلعة للبيع والإتجار، وهؤلاء نجدهم في الاتجاه الديني، مثلما في الاتجاه السياسي الوضعي أيضاً.
فإذا كان أسرى أو سدنة الأيديولوجيا الدينية المغلقة، سجناء حقائق عقائدهم الدينية وشروحاتها وطقوسها ورموزها، ووعودها بتعويضهم عما عانوه من حرمان في واقعهم الذي يعتقدون بأنه الفردوس الذي سيجدون فيه ما يشتهون من خمر ولبن وعسل وحور العين، وسندس واستبرق وقصور فارهة. إذا كان الأمر كذلك، فإنهم يدورون في فلك الماضي بحثاً عن معرفة طريق الوصول إلى هذا الفردوس الذي بينته لهم الكتب الدينية وعقائدها، وهو أسرٌ ارتبط أيضاً، بالمستقبل الذي رسمته لهم هذه الكتب ذاتها، حيث اعتبروا الحاضر دار رذيلة وشقاء وفساد، ويجب أن تُهمل أو تترك رغبة بما تشي به أحلام المستقبل .. الجنة.
إذاً، إن أسرى الوهم الديني يعيشون حياتهم محاصرين بماضٍ تكمن فيه معرفة طريق الخلاص، ولا بدّ من العودة إليه دائماً وتمثُّله فكراً وسلوكاً، وبحاضرٍ يتطلَّب منهم رفضه أيضاً رغبة في تحقيق ما وعدهم به هذا الماضي نفسه في المستقبل. هذا الماضي الذي أصبح بالضرورة المنطلق الوجودي والمعرفي المقدس لهم، وكل محاولة للخروج منه أو عليه حباً بالحاضر الفاسد، هو تحدٍّ لهذا المقدس وما يمثله، وهذا التحدي سيُدخل صاحبه في خانة الردة والكفر والزندقة والالحاد، وبالتالي البدعة التي ستحرمه من جنان الخلد لاحقاً، كما يدعي من جعلوا أنفسهم أوصياء الله على هذه الأرض، وهم بعض مشايخ الدين، أو ما نسميهم بسدنة الحقيقة المطلقة. هؤلاء الذين راحوا يمارسون قمعهم الوعظي على المتدينين، حتى لا يخرجوا عن العالم الذي رسمه لهم، من فسَّروا الدين وأوَّلوه من تجار الدين، خدمة لهم ولأسيادهم، تارة بالترهيب، كعذاب القبر أولاً، ثم عذاب جهنم بكل ما فيها من وسائل التنكيل، ومن تعذيب بالنار والزمهرير والحديد ثانياً .. الخ.
أيضاً، بالترغيب، كوعدهم بجنة تجري من تحتها الأنهار، فيها كل ما تشتهيه النفس الإنسانية وفي مقدمتها حور العين، والخمر كما بيَّنا قبل قليل.
أما أسرى الفكر الوضعي من مثقفي وسياسي السلطان، ومن السياسيين، والأيديولوجيين الذين يعملون على إرضاء سلطات الحاضر، أو حكام دولهم، فهؤلاء في وظيفتهم لا يختلفون عن سدنة المعابد، حيث تجدهم يعملون على نشر أفكار أو أيديولوجيا الدولة أو بالأحرى السلطة القائمة “حاضراً” بأي وسيلة متاحة، كالصحافة والإعلام ومنابر الجوامع والمراكز الثقافية الخاضعة لسلطتهم، ويعتبر كل خروج عن سياسة هذه الدول أو السلطة الحاكمة، هو انحرف عن الأيديولوجيا المتبعة، وخيانة للوطن، وارتباط بالأجنبي، وتهديد للأمن القومي أو طرح لأفكار مستهلكة أو.. الخ .
نعم هم يريدون أن يُنمذج كل الناس، وأن يخضعوا في أفكارهم ورؤاهم لسلطة وسياسة المركز في الحكم، شأنهم شأن الأسرى وهم في الدين المسيسين، الذين يريدون لكل الناس، أن يخضعوا أيضاً للمركز الديني المسيس بدوره وفقاً لما تريده السلطة من الدين، وبالتالي فكل من يخرج عن سكة السلطة من المثقفين الوضعيين، يمارس عليه الترهيب والترغيب، فالترهيب يأتي بالسجن والإقصاء والنفي وكم الأفواه، مع ممارسة وسائل حديثة ومعاصرة في التعذيب ربما لا تخطر على بال سدنة الوهم الديني، بتصويرهم لعذابات جهنم، وكذا حال الترغيب الذي يحقق لمن يخضع لهذا الوهم، كل سبل الراحة والترف في حياته.
هذ هي معطيات أسرى الأيديولوجيا المغلقة، التي نراها سائدة في معظم المجتمعات والدول العربية التي فقد فيها أفراد هذه المجتمعات حرية الرأي والتعبير والمشاركة في بناء شؤون حياتهم، وفرضت عليهم وصاية أهل الدين والدنيا عبر تاريخهم الطويل.
كاتب وباحث من سورية
5-1-2021
رقم العدد 1027