الثورة أون لاين – بقلم مدير التحرير أحمد حمادة:
منذ أن عرف العالم مصطلح “العولمة” وشعوبه تدرك جيداً أن “الليبراليين الجدد” في أميركا والغرب لم يكونوا يهدفون – كما زعموا وروّجوا مراراً- إلى خدمة الشعوب ورفاه الفرد عبر تحقيق سرعة تبادل السلع والخدمات بين الدول، التي باتت متاحة كثيراً بفضل الإلغاء التدريجي للحواجز التجارية في إطار اتفاقية (الغات) واتفاقية منظمة التجارة العالمية المبرمة عام 1995.
ولو نظرنا إلى مدى تأثير العولمة الاقتصادية على الكثير من البلدان، وعلى الدول العربية تحديداً، لوجدنا الكثير من السلبيات التي ضربت عميقاً في هذه المنطقة، وليس الإيجابيات التي روّجوا لها، وقبل أن نتحدث عن تلك السلبيات، ونناقشها، ونغوص في أعماقها لا بد أن نعرّج على ترويج “الليبرالية الحديثة” ومنظريها لمحاسن العولمة ثم نقارنها بما تم حدوثه على أرض الواقع.
فالليبراليون الجدد طالما سوّقوا أفكاراً مثل أن العولمة يمكن أن تحفز الدول على إعادة هيكلة اقتصاداتها، وتحسّن مستوى المعيشة لمواطنيها، وتزيد من فرص العمل، وتعمّق الاستفادة من التطور التقني، وترفع معدلات النمو، وتجتذب رؤوس الأموال في الاستثمارات الكبرى كالنفط والغاز والخدمات كالسياحة.
وليس هذا فحسب بل روّجوا أنه في ظل العولمة ستتنوع المنتجات من السلع والخدمات وستنخفض تكاليفها، وستساعد توجهات “الخصخصة” الاقتصادات الوطنية في التغلب على ظاهرة “الإغراق”، وسيتم تشجيع البحث العلمي وستتسرع “عصرنة” الاقتصاد، وسيتم القضاء على البيروقراطية والروتين، وستتحسن القدرة التنافسية للمنتجات الوطنية، إلى آخر قائمة المغريات التي ربما نحتاج إلى مجلدات لحصرها.
لكن على أرض الواقع ماذا فعل “الليبرليون الجدد” في مجتمعاتنا الشرقية، وتحديداً العربية، والتي لو قارنا ما ذكرناه آنفاً من إيجابيات تم تسويقها بما صنعوه على الأرض لأصبنا بالذهول واعترتنا الدهشة من الواقع السلبي السيئ الذي لا يمت بصلة لكل ما روّجوا وسوّقوا له على مدى عقود.
ففي نظرة سريعة إلى نتائج خارطة “العولمة” في مجتمعاتنا نجد أن معظمها تحول إلى مجرد أسواق استهلاكية شرهة لمنتجات أصحاب الشركات الاحتكارية من ليبراليي الغرب الطامعين بتكديس المليارات في حساباتهم، وتزايدت تبعية اقتصاد بلداننا العربية للاقتصاد الغربي، وتم إضعافه، وتزايدت معدلات التفاوت بالدخول، وتأثرت ميزانيات الدول العربية سلباً بسبب خفض التعرفة الجمركية على المستوردات، وإلغائها في معظم الأحيان.
وليس هذا فقط بل تعرضت القطاعات الزراعية والصناعية والخدمات المالية وحتى قطاع الخدمات في الاتصالات وأعمال المهن الحرة لتدمير وتراجع كبيرين، واختفت الصناعات الكبرى التي كانت تشقّ أول طريقها، وأدى إلغاء الدعم الزراعي في بعض البلدان وتطبيق وصفات “الغات” إلى ارتفاع كبير في أسعار المنتجات الزراعية، ما انعكس سلباً على الدولة والمواطن في أكثر من بلد، وتفشت البطالة وازداد عدد الفقراء، وراكم ذلك كله التخلف الاقتصادي، بل انتشرت المافيا والجريمة المنظمة.
ولم تتوقف سلبيات “النيوليبرالية” عند هذه التخوم بل ساهمت إجراءاتها تحت مسميات العولمة برفع تكاليف إنتاج الصناعات التصديرية بسبب مواصفات “الجودة” وشروطها، والمبالغة بتطبيق أحكام حماية حقوق الملكية الفردية، وتعرض قطاع الخدمات لمنافسة غير متكافئة مع نظيره في الدول المتقدمة، وانخفضت مساهمة التجارة العربية في إجمالي المبادلات التجارية العالمية، وازدهرت الاستثمارات غير المنتجة لكونها تدر أرباحاً، وتم تصدير الصناعات الأكثر تلويثاً للبيئة إلى مناطقنا، وتم تقييد السلطات المحلية فـي اتخاذ القرارات الاقتصادية المتعلقة بالسياسات التجارية والمالية والزراعية والصناعية والأنظمة والإجراءات المتعلقـة بها، لأن هـذه السياسات ينبغي أن تكون منسجمة مع أهداف منظمة التجارة العالمية ومبادئها.
ولننظر فقط إلى الكارثة التي أصابت قطاع النفط العربي لندرك حجم المشكلة، فقد تم إضعاف قـوة مـوارد الثـروة الماليـة العربيـة المتمثلـة بـالنفط الـذي يعـد مـصدراً رئيـساً واسـتراتيجياً للكثير من بلداننا، ويؤكد الخبراء في هذا المجال كيف تم إضـعاف أهميته كسلعة حينمـا تـم اسـتثناؤه مـن السلع التي تخـضع لحرية التجـارة الدوليـة أســوة بتجـارة المعلومات، مـن تخفـيض الـضرائب والقيـود الجمركيـة المفروضة عليها من الدول المستهلكة، وواجهت “أوبـك” أزمة كبيرة وفقاً لاتفاقية سياسة المنافسة التـي ارتضت بها.
العرب إلى الهامش إذاً، وإلى الإفقار و”التفقير” المبرمج بهمّة “الليبرالية الجديدة” ومحاولتها عولمة العالم على طريقتها، وليس هذا فحسب بل انعكس تراجعهم الاقتصادي إلى غياب قرارهم السياسي وتقييده، وتبعية معظم عواصمهم لواشنطن، التي فرضت منتجات شركاتها على دول الخليج العربي، وأغرقت معظم العرب ببضائعها، وابتلعت شركاتها الاحتكارية الجشعة أموالهم، ثم قامت بتمويل الحروب من هذه الأموال ضدهم، ناهيك عن محاولة فرض قيمها وثقافتها الاستهلاكية عليهم، فوصلت مجتمعاتنا إلى هذا الدرك الأسفل من الفقر والتبعية، فضلاً عن الأسباب الذاتية النابعة أساساً من سياسات العرب أنفسهم، ومن طبيعة نظمهم الاقتصادية والسياسية التي زادت من حجم الكارثة.