الثورة أون لاين – رنا بدري سلوم:
لا يختلف اثنان على الالتباس الذي حصل حول واقع الملتقيات الثقافية، وطبعاً قبل جائحة كورونا، التي كممت الحراك أياً كان نوعه، فلم تكن تلك التجمعات وليدة العصر الراهن بل بدأت منذ عصر “مريانا مرّاش” في أوائل القرن المنصرم، حين أقيمت المجالس الأدبية للتواصل بين المتلقي والمبدع فكانت فسحة للحوار الثقافي الفكري، ولكن هناك من يعتبر أن تلك “الملتقيات”مضيعة للوقت وعمل من لا عمل له..! بدليل فشل الكثير منها حين كان لظهورها إشكالية..! عدا عن ضياع الرسالة والأطروحات الثقافية المقدمة من نخبة المختصين والمهتمين والتي تظلمها أماكنها أحياناً.. فإن أقيم الملتقى الذي كان يسمى “المقهى الأدبي” في إحدى مقاهي دمشق القديمة يحكم البعض المتابع على هامش الحرية المفتوح بالانحلال الأخلاقي..! عدا عن هروب أصحاب الملتقى من ابتزاز أصحاب المقاهي حين ترتفع نسبة الحضور فترتفع أجرة الضيافة المقدمة..! الأمر الذي يراه البعض غبناً وظلماً بحق تلك الملتقيات التي تبتعد عن نمطية طرح المراكز الثقافية وتحرك الركود الثقافي فيها، ومع ذلك تحضر عين الإعلام لتغطية فعاليتها بتواضع! فتبرز من تريده.! فهل ما يقال عن تلك الملتقيات الثقافية والشهادات المقدمة هو حقيقة؟ أما هناك تشوه ما نعاني منه دون عمق أو إسهاب لمعالجته من ثم تجميله؟
“الثورة” حاورت بعضاً من أصحاب الملتقيات الثقافية للوقوف على ماهيتها في إظهار الرؤى الثقافية، رغم تهرب البعض من مسؤولية الطرح، حين وجهنا لهم أسئلة تصب في واقع الملتقيات، بحكم وظيفتهم الرسمية في مديريات الثقافة!، والبعض الآخر نأى بنفسه تحت ذريعة عدم الحصول على “الترخيص” لملتقاه! رغم التطبيل والتزمير الذي حصل عليه في الوسط الإعلامي، وبجميع الأحوال، هدفنا في كشف حقائق تلك الملتقيات الوصول إلى إجابة لتساؤلنا: هل حلّت الملتقيات الثقافية مكان الصالونات الأدبية في عصر العولمة! وبالتالي سحبت البساط من المراكز الثقافية فجذبت جيل الشباب؟.
رسالتهم فيها..
“الملتقيات ليست موضة حديثة العهد، دمشق عاصمة الملتقيات والصالونات الأدبية منذ عهد ماري عجمي، يجري في دم الدمشقي الأدب والشعر والجمال وهي ظاهرة إيجابية”، ما بينه أحمد كنعان مشرف ملتقى “يا مال الشام ” ففي زمن الحرب بدأت رسالته من بيروت إلى دمشق، ليوضح الملتقى وجه سورية الحقيقي، فما حدث من قتل وتدمير كان طارئاً، بينما الدائم والمؤكد هو ملمح دمشق غير المزور، وإن هدف ملتقاه أن يترك المنبر مفتوحاً أمام الجميع، وعلى الجمهور أن يحكم على مستوى المضمون المقدم فيترك الحكم له، أما هامش الحرية لم يحدث يوماً أن أوقف فيلماً عن العرض، ولكن الخط الأحمر في الملتقى هو عدم الإساءة لمعتقدات الآخرين أياً كانت.
وحين نضرب نموذجاً للملتقيات الناجحة يتبادر للذهن ملتقى “الأجيال” بإشراف الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين حيث يرى عضو هيئة الملتقى الشاعر خليفة عموري أن العمل بالشأن الثقافي يبدأ بفكرة نبيلة وهي السعي لرفع المستوى الثقافي والذائقي والتوعوي من خلال استقطاب المواهب الإبداعية الجديدة في الأجناس الأدبية لتكون هذه الملتقيات حاضنة ترعى الموهبة الحقيقية وتدفع بها إلى حيز النور عبر صقلها بالتوجيهات والإرشادات والتي تمكنها من الوصول للحالة الإبداعية الرافدة للمشهد الثقافي، فالملتقيات الثقافية هي بالأصل بوابة مفتوحة للغث والسمين من المواهب والتجارب الفنية والنهاية تكون للذين امتلكوا موهبة إبداعية حقيقية تحفز للاستمرار والعطاء.
تغطيات إعلامية خجولة..
“ولعل من أهم ما يجب أن تتميز به الملتقيات أن تلامس هموم المجتمع في شتى المجالات وعلى المتابعة الإعلامية لها أن تكون بعيدة عن الشللية والعلاقات الشخصية فهي من شأنها تسليط الضوء على الجانب الإيجابي ووضع يدها على السلبي بغية تجاوزه”، بحسبما أوضحه رئيس اتحاد الكتاب العرب الدكتور محمد حوراني والمشرف على ملتقى “شآم والقلم” الملتقى الذي لاقى صدىً إيجابياً ومتابعة من قبل حاضريه، عازياً العزوف الجماهيري الذي يعود أولاً إلى تراخي القائمين عليها وعدم استمراريتهم في العمل أو وجود بعض الخلافات بينهم وكذلك النمطية في اختيار الموضوعات قيد النقاش وبعدها عن التشاركية.
في وقت تستقطب جودة وأهمية الرسالة الثقافية في الملتقيات، التغطيات الإعلامية، وفقاً لما ذكره “خليفة عموري” مبرزاً الشروط التي تكفل نجومية الملتقى وظهوره إعلامياً كالأداء والتنظيم والعلاقات العامة، مبيناً أسباب تضاؤل أهمية بعض الملتقيات بسبب الأداء مثل الرقص والغناء والذهاب بعيداً عن الهدف الرئيسي ألا وهو “الثقافة الملتزمة” والجادة، فهناك بعض التجمعات الشللية التي أخذت من الثقافة غطاء لمآرب أخرى وبالتالي لم يكتب لها الاستمرارية فتلاشت.
بينما أبدا أحمد كنعان يأسه من الإعلام في تغطية مثمرة لأي ملتقى، لأنه ليس المهم ما يثرثره الوسط الثقافي، لذا ينطلق ملتقى “يا مال الشام” من تطلعات الشباب ولا يعنيه “البريستيج الإعلامي” لإظهار المختصين بالشأن الثقافي” فلا نبشر بلا مبشرين” بحسب كنعان!
تكريمات مبتذلة!..
“ظاهرة التكريمات باتت مبتذلة وممجوجة لأنها لا تعتمد على القيمة الفنية الإبداعية للكتاب بل على الشخصنة والمزاجية لذلك فقدت أهميتها وأهليتها وخصوصاً إن كانت من جهات غير مؤهلة ثقافياً في منحها “وفقاً لما ذكره عموري، في حين يوضح الدكتور حوراني أن ما يتعلق بالشهادات المقدمة من قبلها فإن لها شقين اثنين، الأول الأقرب ما يكون لكلمة “شكراً” وهو المتمثل غالباً بشهادات التقدير التي تكون أقرب إلى كلمة الشكر للمشاركين أو الوردة التي تمنح المساهمين فيها، والثاني هو شهادات الدكتوراه “الفخرية” التي تمنح لبعض “مرضى” من الدخلاء على الثقافة والفكر وهو ما يجب أن تتم ملاحقته ومحاسبته من قبل الجهات المعنية، لأنه يهدف إلى تجهيل المجتمع وتعويم الدخلاء على الثقافة والفكر وجعلهم يتصدرون المشهد الثقافي والإبداعي بجهلهم وفقرهم المعرفي والثقافي.
وعلى العكس تماماً، يرى “أحمد كنعان” مصداقية التكريم للشخص المكرم بغض النظر عمن يكرمه في ملتقاه بالقول: “كرمّنا عباس النوري ومحمد حداقي، النحات معن محمود ومصطفى علي، وغيرهم ممن يستحق التكريم، ففي النهاية تعد الملتقيات رافداً للثقافة في حال قامت على أسس مجتمعية أخلاقية ثقافية صحيحة بعيداً عن الغرور والتعالي والتصابي”!
يوافقه الرأي خليفة عموري أن بعض الكتاب الكبار بصبغتهم المتعالية والمنعزلة لا يتقبلون الأفكار أو المواهب الجديدة لذلك يحرص في الملتقى على هذا الدور من خلال ورشات نقدية تعنى بالشباب وتقويم كتاباتهم بعيداً عن فكرة التلقين بل النقاش والمرونة، فيحرص على التمازج بين الصوت الجديد والتجربة الناضجة من خلال عرض النتاجات الأدبية وأخذ المشورة والإرشاد من أصحاب التجارب بمعنى إرساء دعائم المجالية بين التجارب جديدها وقديمها لسد الهوة القائمة بينهما.
فيما أكد” الدكتور محمد حوراني”وجود دخلاء همهم الأساسي ضرب الحالة الثقافية الراقية وتعويم أناس لا علاقة لهم بالفكر والثقافة والهم الوطني إلا أن هؤلاء كانوا فقاعة أشبه ما تكون بالزبد، معتبراً الملتقيات الثقافية حالة صحية في المجتمع، لا سيما عندما يكون القائمون عليها من المعنيين بالشأن الثقافي والمشتغلين بالهم الفكري، يعملون على ضرورة النهوض المجتمعي والارتقاء بالحالة الثقافية وتأصيل ثقافة الانتماء وتعزيز الهوية الوطنية، وبرأيه إن رعاية المؤسسات الثقافية الرسمية وشبه الرسمية للملتقيات الثقافية من شأنها أن تصوب مسيرتها وتضعها على السكة الوطنية الصحيحة.
حصانة أخلاقية رزينة..
يقام تحت قبة المراكز الثقافية، أو اتحاد الكتاب العرب، أو اتحاد الكتاب الفلسطينيين أو إحدى مقاهي دمشق القديمة، لا فرق..! أليس المحتوى الذي يقدمه الملتقى للجمهور واحد، وعليه أن لا يتلاعب به الزمان والمكان؟ ولكن يبقى “المكان الرسمي لأي ملتقى تابعاً لجهة ثقافية رسمية يعطيه الحصانة الأخلاقية أولاً ثم الثقافية” وفقاً لعموري، بينما بين ” الدكتور حوراني” أن رقي المكان الذي تقام فيه الملتقيات الثقافية والفكرية والإبداعية من شأنه أن يجعلها أكثر قبولاً ورزانة عند المتلقي كما أن التعامل المسؤول من قبل القائمين عليها يمكن أن يحقق الهدف المرجو منها، ويمكن لهذه الملتقيات أن تكون أكثر حرية في إطلاق الأفكار ومناقشتها من الأماكن الرسمية المحكومة بضوابط صارمة المتكلسة وشبه المتكلسة منها!.
في حين عانى كنعان مشرف ملتقى “يا مال الشام” الملتقى المتنقل إن صح الوصف من ابتزاز بعض أصحاب المقاهي! وعن إقامته ضمن بيئة دمشقية قديمة بيّن أنه من حق الحضور أن يعيش طقوسه الطبيعية في جو يعيد للإنسان قيمته، فيتأمل بعيداً عن جدران الرسمية ويحتسي القهوة وهو يستمع للشعر أو الموسيقا، مؤكداً أنه لا يقل نسبة الحضور في ملتقاه عن خمسين حاضراً في كل جلسة، وهو ما يفوق الحضور في المراكز الثقافية التي عدّ كنعان بعضها “ثلاجات موتى” ولا سيما أنها حكر للعائدية “شاعر وأخوه وابنته وصهره”!
مباركة ودعم من الوزارة..
وكي لا نلغي للجانب الثقافي الرسمي “إن صح القول” دوره في عمل تلك الملتقيات ودعمها من قبل وزارة الثقافة، حاورنا مدير المراكز الثقافية في وزارة الثقافة حمود الموسى والذي أجاب عن تساؤلنا ببساطة ” ليست مهمة وزارة الثقافة أن تسحب البساط “على العكس فنحن نبارك نشاط الملتقيات وندعمها وإن نجاحها هو نجاح لنا، ونحن نتجه لدعم أي ظاهرة نراها صحيّة وتغني وتفيد الواقع الثقافي وربما نتعلم منه، وبالعودة لنشاطات المراكز الثقافية يبين الموسى بأنها ليست بسوية واحدة وإذا كان هناك عزوف عنها فهو ليس عاماً، وأن هناك الكثير من المراكز الثقافية تقدم نشاطات ثقافية من مهرجانات وغيرها تلاقي قبولاً وحضوراً ممتازاً، وهذا لا يعني أننا راضون عن أنفسنا وأن كل شيء على ما يرام، بل إننا نرى أن ظهور هذه الملتقيات الثقافية ربما كان محفزاً لنا للعمل على تطوير نشاطاتنا والعمل بجدّ لتكون هذه المراكز محط الاهتمام بما تقدمه من مادة ثقافية.
مؤكداً مدير المراكز الثقافية أن أهمية المراكز لا تتوقف عند بعض النشاطات المنبرية وحسب، بل إن هناك عمل جدي ومهم على صعيد الموسيقا والفنون الشعبية ودورات التأهيل شبه المجانية، مشيراً إلى خطة ثقافية متنوعة ونوعية تشمل معظم الطيف الثقافي تعد من قبل الوزارة وفريق العمل الاستشاري والاختصاصي فيها وتشرف عليها الوزارة بالتنسيق مع مديريات الثقافة وتحقق حضوراً وتفاعلاً وتكتسب أهمية كبيرة في المحافظات.
ويرى الموسى أن الأنشطة الثقافية في المراكز لا تقل أهمية على الإطلاق عن الملتقيات والمنتديات الأهلية بل تفوقها نوعاً ولكن تختلف مناخات العمل نوعاً ما بين الرسمي والأهلي من حيث المكان وخصوصياته، وبالتالي العمل تكاملي والهدف واحد وهو نشر الوعي المعرفي والثقافي والأخلاقي في مجتمعنا, خاتماً بالقول إن عدداً لا بأس به من الملتقيات والمنتديات مرخص رسمياً من الوزارة وتشرف على عملها وهنا تحقيق لمبدأ التشاركية.
أخيراً..
جدلية قد لا تنتهي، منهم من اعتبر أن الثقافة لم تنهض كما يجب، لذا لجأ إلى إقامة ملتقى، ومنهم من اعترف بالنجاح الكبير الذي حققته الملتقيات في المشهد الثقافي والتي أزاحت الستار عن الكثير من القضايا الحساسة التي لم يطرحها القائمون على المراكز الثقافية وهو ما أنجحها في شد المتابع بثقة وحماسة لافتة، وفي النهاية لابد وأن نشير إلى أن جائحة كورونا قد كممتْ العمل الثقافي التفاعلي لفترة لا يستهان بها والتي تجعلنا ننتظر وبشوق ما سيقدمه أصحاب الملتقيات والمعنيون بالشأن الثقافي للفترة المقبلة.