الملحق الثقافي:ثراء الرومي:
كسربِ سنونو تهاجر الكلمات إلى الماضي البعيد وسط هذا الصقيع، ملتمسة مواطن دفءٍ وجمالٍ كانت وستبقى، ملاذاً آمناً في وطنٍ تنهشُ خاصرته الغربان، وتتسرَّب من بين أصابعه ذاكرة الفرح، وقد أتت الحرب على كثيرٍ من الجسور.
ألجُ بوابة الذكريات، لأبحث فيها عما يفتقده جيلٌ كاملٌ من نعيمٍ عشناه، وكلٌّ منا يحمل جرَّة أحلامه، ويغرف من نبعِ نقاءِ تلك الأيام، ليملأها ويروي بها دربه. فمنَّا من أزهرت دروب أحلامه، ومنَّا من كسر الجرَّة في منتصف الطريق وراح يجر أذيال الخيبة، وكثيرون لم يملؤوها بما يكفي ليكملوا المشوار، فنأت بهم الدروب. لم تكن الحياة يسيرة حينها، كما أن الكثير مما كنَّا نتمنى الحصول عليه، نلناهُ بشق الأنفس. رغم كلّ هذا، كان ثمَّة دفء روحيّ جمعي، لم ندرك حينها أنه سيصبح أثراً بعد عين.
لا أغالي إن قلت، إنني أكاد أسمع صفير الريح في كلِّ بيتٍ خلعت الحرب باباً من أبوابه، عبر شتى ألوان الفقد والدمار.
ما زال صوت ذاك الطفل، يطرقُ باب ذاكرتي بألمٍ رهيبٍ، مختزلاً حال الكثيرين من أمثاله. ابن الثالثة عشرة الذي سرقت منه الحرب دفء حضن الأم، صرخ في وجهي ذات يوم بكلِّ قهر العالم: “أنا طفل.. ما ذنبي في الحياة لأكون بلا أم؟!.. يومها خرجت من قاعة الصف مرغمة، لأتمالك نفسي من بكاءٍ أجهشتُ به.
جرَّة الأحلام باتت من تراث الماضي، فكلّ شاب وفتاة أصبح خاتم ارتباطهما عزيز المنال، وغدت كلّ قشَّة في عشٍّ الزوجية الذي يعجزان عن الحلم به، تعادل أضعاف وزنها ذهباً، فالكلُّ يريد أن ينهش من لحم الوطن، والأكثر تكالباً هم بعض أبنائه المفتَرَضين، ممن غدا أثمن صفقاتهم، والضحية بلا شكٍّ هم إخوتهم في الوطن والإنسانية.
الخراب جسيم، والحرائق ابتلعت كل الأخضر حقيقة ومجازاً، ووسط كلّ هذا لا خيار لنا سوى إعادة البناء. قد تبدو المهمة مستحيلة، ويبدو الحديث عنها منفصلاً عن الواقع المرير، ولكن لا بأس بغرس بذورٍ طيبة في نفوسٍ لم تشوِّهها الحرب بعد. ربما تتعذَّر علينا المهمة بالنسبة إلى جيل الشباب الذي يمضي متعثراً بأبسط أحلامه، ولكن عسانا نملك أن نرسم حلماً في أعين جيل الأطفال، ونعزِّزه بقيمِ الانتماء ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.. لعل القادم أجمل، فسوريتنا الحبيبة تستحق سعينا المستميت لتحقيق خلاصها المنشود.
التاريخ: الثلاثاء9-3-2021
رقم العدد :1036