نسعى جميعاً لتكريس لغة الحوار فيما بيننا، وتُبنى لغة الحوار على مبدأ الاختلاف، وهو فن يحتاج الإتقان، والكثير الكثير من الجهد والمهارة، والذوق والتعلم الألق، حتى لا نخسر من نناقش، ولا نقع في متاهة الجدلية، ولنرتقي إلى منصة الحوار.
إتقان لغة الحوار قد تكسبنا صديقاً، عندها نكون كمن يزرع قمحة في تربة خصبة فتطرح سنبلة ذهبية، طيبة مبهجة، وإلا فقدناه كمن وقع في صحراء رملية يغيض الماء فيها دون أن تبتل، وقد نواجه أحداً كالأرض السبخ يدير ظهره دون عودة.
في لغة الحوار لابد من اكتشاف ماهية المحاور بسرعة، فإن كان عالماً ارتقت اللغة فلا غالب ولا مغلوب بل الحجة بالحجة، وهي التي تقرب وجهات النظر، وتعمق المشتركات، أما إن كان جاهلاً فغباؤه يتعب المُحاور وقد يغلَّبه عليه بجهله.
استولى دهاء فكر الثعالب البشرية على الأغبياء، فصيرهم جهلُهم وغباءُهم أدوات تحقق مصالح الأعداء ضد أوطانهم، فاستأثر الخبيث عليهم مع أولئك الذين يدًّعون العلم في كل شيء، خاصة من يختطفون الدين لأنهم مرجعية الجهلاء وقادة الأغبياء.
هذه النمطية من الحياة أثْرَت جيوباً، وأخرجت أخرى خارج أثوابها.. تشكو فراغها وتقشف شفاه من ينتظرون منها ما يسكت خواء البطون، من لا يعبؤون بجوع الآخرين، ينهشون لحم الجميع، يقطر الدم من أنيابهم كثعلب لم يترك للفلاح دجاجة.
يبدؤون بشباب محتج فقط، احتجاجه نابع من جوع تاريخي للحب والانسجام العاطفي والوجداني، تنامى حتى صار جوعاً مثقلاً بالكوابح، الاجتماعية المختلفة، مفعم بالتوق للتحرر والانعتاق من عادات سائدة على امتداد الوطن العربي.
السيطرة على هذا النوع من الشباب البعيد عن ألف باء الحضارة، سهل لأنهم بعيدون عن الكتاب غارقون في غربتهم بعيداً عن أبجدية الثقافة، فحركتهم في الساحات، هم غير متوازنين ينساقون وراء أهوائهم حيناً ويخضعون طواعية للأعراف، ترى ذلك خطيئة أم إجرام بحقهم وحق الوطن.
يذهبون بعدها للشباب المتمرد يقطعون عروقه البشرية، وأنساغه الثقافية.. والحضارية.. أفقياً وعامودياً، يضغطون عليه حتى تنمحي شخصيته لتذوب في غيابة مصالحهم فيتحولون إلى روبوت، يحركونه بالكونترول الذي يسيطرون عليه.
هنا تغيب لغة الحوار ويدير كل ظهره للآخر، تحل لغة القتل بأبشع صورها، فعندما تلغى العقول تنتفي الإنسانية، وتتبلد المشاعر وتفيض الألسن بقميء الحديث، أما إذا ارتقت العقول بأفكارها، طابت الألسن بحديثها، ولم يبق مكان للتدخلات العسكرية.
عندما تسود لغة السياسة، لا يبقى مكان للفوضى الأمنية، وينتفي الاتشاح بلبوس الدين ظاهرياً، المبطن بالهيمنة الاقتصادية، وذراعه العسكرية، كما تفعل أميركا وأردوغان، وهنا تكون الأفعال في مساحة الإجرام، حيث لا مكان للخطيئة.
عندما نضع أنفسنا ضمن العالم المتحضر لابد من أن تسود لغة الحوار، عندها تصبح الدنيا ضمن مسيرتها الطبيعية، وتحل أطياف السلام وتمتلئ القلوب بالمحبة، وتشرق شمس الحياة على أجيال تصحح المستقبل.
إضاءات – شهناز صبحي فاكوش