«ساعي بريد نيرودا».. وحياةٌ تَهِبُ حياة

الملحق الثقافي:إنصاف قلعجي *

عندما تلا «ماريو روبوبلو» بعض العبارات التي حفظها من أول ديوان شعر لـ «بابلو نيرودا». ديوان «أغنيات بدائية»، سأله عما يعنيه من عبارته «هي استعارات»، فأجابه «نيرودا»: «عندما تتكلّم عن شيءٍ وتقارنه بشيء آخر». يعاود «ماريو» سؤاله: «ماذا تقصد حين تقول: «لماذا صالونات الحلاقة تجعلني أبكي»، فيجيب «نيرودا»: «الشِّعر لا يُفسَّر لئَلا يصبح كلاماً عادياً»، فيشرد «ماريو» لثوانٍ ثم يقول: «العالم كلّه استعارة لشيءٍ آخر»، فيقول له «نيرودا»: «يوماً، إذا أردت أن تكون شاعراً، فابدأ بالتفكير ماشياً، ستذهب إلى المرسى عن طريق الشاطئ، وأثناء مراقبتك البحر، تستطيع أن تبدأ بابتكار الاستعارات».
أسمعه يوماً «نيرودا» بعض شعره، وسأله عن رأيه، فلم يستطع الإجابة سوى أنه، أي ماريو، مثل قاربٍ قُذف نحو تلك الكلمات.
فيلم «ساعي بريد «IL Postino» فيلم إيطالي، أنتج عام 1994، وهو مأخوذ عن الرواية المتخيَّلة «الصبر المتأجِّج»، وهي للكاتب التشيلي «أنطونيو سكارميتا»، وقد قام المترجم الفذّ «صالح علماني» بترجمتها إلى العربية، تحت عنوان «ساعي بريد نيرودا»، وقال عنها إنها رواية بطعم الفاكهة، وهي تحكي عن وصول الشاعر التشيلي «بابلو نيرودا» في الخمسينيات من القرن الماضي، إلى منفاه في قريةٍ صغيرة تقع ضمن جزيرة إيطالية، بعيداً عن بلده تشيلي التي تشتعل بالصراعات السياسية.
في الرواية، يقوم «ماريو روبوبلو» بدور الممثل الإيطالي «ماسيمو ترويسي»، وهو ابن أحد الصيادين.. بسيطٌ وخجول ويرفض أن يعمل في هذه المهنة. تتيح له الظروف أن يعمل ساعي بريد في القرية، فهو يقرأ ويكتب قليلاً، وكانت مهمَّته أن يوصل بريد «نيرودا» إذ لا أحد في القرية تصله رسائل، وكانت شخصية «نيرودا» قد بهرته وهو يشاهد فيلماً عن وصوله إلى إيطاليا، وعن عشق النساء لشعره، وإقبال الناس على هذا الثائر الشيوعي.
تبدأ العلاقة بين الشاعر وساعي البريد الذي يبدو عليه الذهول وهو يسلّمه رسائله، مبهوراً بشعره وقد اشترى ديوانه، وحاول أن يحفظه غيباً، وأن يعيش في غيبوبة الشعر أيضاً، أن يقترب أكثر من «نيرودا» ليتعلم منه، وليس الشعر فقط، بل وكيف يثور لاحقاً، فقد أخبره» نيرودا» عن انقطاع الماء، فردّ عليه أن الماء سيعود، وهو يدرك أن هناك فاسدين يتسلطون على المياه.
يقول نيرودا: «هناك أناس أقوياء سيتمكَّنون من التغيير»، ويبدأ تأثيره على ساعي البريد، بأفكاره التقدمية ورؤيته للحياة والسياسة، ويلتقي «ماريو» بفتاة عشقها وهي «باتريشا روسو» التي تعمل نادلة في حانة تديرها خالتها، ويخبر «نيرودا» بهذا العشق، فيجيبه: «ما الغريب في الأمر، دانتي أليجيري وقع في الحب»، ويحدِّث «ماريو» الشاعر «نيرودا» عنها، وأنه لم يستطع أن يقول كلمة واحدة أمامها، وطلب منه أن يكتب لها قصيدة، لأنه لا يجيد التعبير عن مشاعره، فيرفض «نيرودا» ويغضب «ماريو» ويقول: «أنت لن تنال جائزة نوبل».
تأتي خالة «باتريشا» إلى «نيرودا» لتشكوه بأنه يغوي ابنة أخيها، وبأنه يشغلها باستعاراته، وقد لمسها بيديه، مع أنه بدأ بريئاً حين كتب لها: «باتريشا.. ابتسامتك تتمدَّد مثل فراشة».. لكن، بدأ يغريها بقصائده كما قالت خالتها، من خلال قصيدة كتبها «ماريو» لها. تعطي القصيدة لـ «نيرودا» ليقرأها: «عارية جميلة.. عارية أنتِ كإحساس الليالي على الجزيرة.. النجمة في شعرك تمتزج..».
وكان أن تزوجها «ماريو» بحضور الكاهن الذي رفض زواجهما في البداية، وبحضور «نيرودا» وزوجته، ومعظم شخصيات القرية.
وحان وقت الرحيل. رحيل «نيرودا» من منفاه إلى بلده تشيلي، وكان «ماريو» قد تعلّم منه الشعر والحب والثورة، ألمٌ كبير حلَّ بـ «ماريو» لرحيل «نيرودا». يقول: «عندما رحلتَ أخذتَ كلّ الأشياء الجميلة معك»، وأصبح يعمل في الحانة مع زوجته.
بعد عدة سنوات، يقرأ «ماريو» تصريحاً في إحدى الصحف، نقلاً عن «نيرودا»، أنه كان يعيش في الجزيرة في عزلة تامة، وأن الأصوات على الشاطئ تركت أثراً في نفسه لن يمحه الزمن، لكنه لم يأت على ذكر «ماريو» الذي قرّر بعد أن شعر بحزنٍ نتيجة ذلك، أن يقوم بمهمة تسجيل الأصوات، أمواج البحر، همسات النسيم، النوارس، الرياح، نبضات قلب طفله الجنين في بطن أمه، وأجراس وأصوات حركة النجوم في الجزيرة، لتكون عبارة عن قصيدة يرسلها لاحقاً في شريطٍ إلى «نيرودا» ليذكِّره بهم.
تكون مفاجأة النهاية حين يعود «نيرودا» إلى الجزيرة مع زوجته، لزيارة صديقه «ماريو»، ويشاهد الصغير «بابلو» ابن «ماريو» الذي لم يره أبوه، إذ تخبره زوجته بأنه قد قتل أثناء ثورة شيوعية، بدأت فيها أحداث شغب، وهجمت الشرطة على المحتشدين، ومنهم «ماريو» الذي كان يحاول الوصول للمنصة ليقرأ قصيدة لـ «بابلو نيرودا» بعنوان: «أغنية إلى بابلو نيرودا». لكن يُقتل قبل أن يشهد ميلاد ابنه، وقبل أن يقرأ القصيدة التي تطايرت ورقتها بين أرجل المحتشدين.
لقد أبدع المخرج البريطاني «مايكل رادفورد» في إخراجه لهذا الفيلم، وخاصة تركيزه على الشخصية الرئيسية، شخصية ساعي البريد، شبه الأمّي، والذي شُغف بالشعر والطبيعة والسياسة، وكانت الحيرة تبدو على ملامحه حين يحدثه «نيرودا» عن الشعر والحب والموسيقا والجمال. أبدع المخرج أيضاً، في تصويره لجمال الطبيعة، وساحل البحر، وبيت «نيرودا» المطل على البحر، ومراكب الصيادين، وأجواء الحانة، والموسيقا الهادئة التي كانت تخيم على سحر الفيلم، ليكون الإبداع الأكبر، براعته في تجسيد العلاقة الإنسانية التي ربطت بين الشاعر وساعي البريد، وكيف يمكن لشاعرٍ كبير أن يؤثر في حياة إنسان بسيط مثل «ماريو» ويقلب حياته رأساً على عقب.
* كاتبة وأديبة أردنية

التاريخ: الثلاثاء16-3-2021

رقم العدد :1037

 

آخر الأخبار
الشرع في لقاء مع طلاب الجامعات والثانوية: الشباب عماد الإعمار "أموال وسط الدخان".. وثائقي سوري يحصد الذهبية عالمياً الرئيس الشرع  وعقيلته يلتقيان بنساء سوريا ويشيد بدور المرأة جعجع يشيد بأداء الرئيس الشرع ويقارن:  أنجز ما لم ننجزه الكونغرس الأميركي يقرّ تعديلاً لإزالة سوريا من قائمة الدول "المارقة"   أبخازيا تتمسك بعلاقتها الدبلوماسية مع السلطة الجديدة في دمشق  إعادة  63 قاضياً منشقاً والعدل تؤكد: الأبواب لاتزال مفتوحة لعودة الجميع  84 حالة استقبلها قسم الإسعاف بمستشفى الجولان  نيوز ويك.. هل نقلت روسيا طائراتها النووية الاستراتيجية قرب ألاسكا؟       نهاية مأساة الركبان.. تفاعل واسع ورسائل  تعبّرعن بداية جديدة   تقدم دبلوماسي بملف الكيميائي.. ترحيب بريطاني ودعم دولي لتعاون دمشق لقاء "الشرع" مع عمة والده  بدرعا.. لحظة عفوية بلمسة إنسانية  باراك يبحث الملف السوري مع  ترامب وروبيو  مبعوث ترامب يرحب بفتوى منع الثأر في سوريا   إغلاق مخيم الركبان... نهاية مأساة إنسانية وبداية لمرحلة جديدة  أهالي درعا يستقبلون رئيس الجمهورية بالورود والترحيب السيد الرئيس أحمد الشرع يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك في قصر الشعب بدمشق بحضورٍ شعبيٍّ واسعٍ الرئيس الشرع يتبادل تهاني عيد الأضحى المبارك مع عدد من الأهالي والمسؤولين في قصر الشعب بدمشق 40 بالمئة نسبة تخزين سدود اللاذقية.. تراجع كبير في المخصص للري.. وبرك مائية إسعافية عيد الأضحى في سوريا.. لم شمل الروح بعد سنوات الحرمان