الملحق الثقافي:يعقوب مراد *
كلّما جئتُ إلى دمشق، أغترف دفئاً أدّخرهُ زوّادة لشتاءِ السويد الطويل.، شتاءٌ دائم ذي نبرةٍ لا تتحدّث إلا بلسان الريح، وإيقاع لا يأتي إلا عبر نوتة المطر، وسحنة الثلج الأبيض.
في دمشق، أمضي شارداً في كلِّ بيوتها وحاراتها وشوارعها وأسواقها.. أعبُّ عطراً من شلالات الياسمين المتعربشة على شرفات منازلها، فتصير أنفاسي كلماتٌ من حبٍّ لا يُنكر ولا يتنكّر إلا باسمها.
مقتولٌ أنا بالشوق، مجندلٌ بالحزن.. الشوقُ إلى دمشق التي لم تغادرني على مدى مرافقتها لي وتأبُّطها لسنواتِ اغترابي، وحزن أعماقي العطشى لإنسانية مكتنزة الوجود، تداهمُ عالمي فيخضرُّ يبابي.
تمرُّ الأيام، والحنين قاسٍ لا يلين.. الحنينُ إلى بلدي التي هاجمها وقتلها وظلمها الأهل والغرباء.. حنينٌ فاقمه الوباء اللعين، الذي وقف حائلاً بيني وبين بوحها الذي اعتدت على سماعه، وأنا بكامل الإصغاء.
أصغي إليه، فينصت لي، للمغترب الذي تخلّى عن كلّ شيء، وارتضى بأيّ شيء، وفي بلدٍ، ليست تلك التي حدّثوه عنها، ولا حتى التي رسمها في خياله.. بلدٌ ليستْ له ولا لأجله، وهو فيها مجرّد رقم طويل عليه أن يحفظه عن ظهر ضرورة، وإلا سيكون محاصراً ومقيداً، بكلِّ ما يجعله بلا جدوى أو معنى أو أهمية.
يسألونني: ما بكَ ولِم تَقهقرَ حالك؟!.. أجيب: وحدها دمشق تعرفني وتنقذني، تجذبني إلى أناها بهواها.. إلى أرضها بنبضها.. إلى بوحها بعزفها، وإلى قلبها بهمساتِ أنوثتها وسحرها ودلالها.
أن تكون سورياً ومغترباً، لا ينفع أن تبتسم إلا لوجه قمرها المعشوق، ولا يُجدي أن تعشق إن لم تسطع منها، مع كلِّ غروبٍ وشروق.. لا يمكن أن تليقَ بها، إلا إن صفعتَ كلّ من يحاول ولو الإشارة إلى أنها غادرتك، فأنت الراحل عنها، ووحدكَ من خسرتْ.
نعم خسرتْ، ويتّقد قلبي شوقاً لدمشق.. أتوق لعناقها وتلمّس مفرداتها، إنها مفرداتي أعشقها وإن احترقتْ.
* كاتب وروائي مغترب
التاريخ: الثلاثاء16-3-2021
رقم العدد :1037