الثورة أون لاين – سامر البوظة:
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن “الليبرالية الحديثة” كونها أحد أبرز الأسلحة الفتاكة التي استخدمها الغرب الاستعماري في حروبه ومخططاته التي كانت ولا تزال تستهدف منطقتنا العربية, بهدف طمس هويتها وثقافتها وحضارتها التي تمتد لعقود طويلة من الزمن, حيث وجدت فيها الطريق الأقرب والوسيلة الأسهل والأقل تكلفة للوصول إلى أهدافها, وذلك عبر التغلغل داخل المجتمعات وتفكيكها وتدمير بنيتها الأساسية ليسهل السيطرة عليها, وذلك من خلال تزوير الحقائق واللعب على المصطلحات إلى قلب القيم والمفاهيم, ونسف الثوابت والمسلمات والمعتقدات, لتتمكن في النهاية من ضرب المرجعيات الثقافية والفكرية والدينية, وبالتالي إنهاء دور الدولة وفتح المجال واسعاً أمام الفوضى, ليتسنى لها تمرير مخططاتها وبلوغ مآربها الدنيئة, وهنا تكمن خطورة “الغزو الفكري”, الذي يبدأ بالسيطرة على العقول وينتهي بتدمير المجتمعات.
من هنا يبدو واضحاً أن الهدف الأساسي من نشر هذه الايديولوجيا هو لتحقيق أهداف سياسية بالدرجة الأولى قبل الأهداف العسكرية أو الاقتصادية, وهو ما ظهر جلياً من خلال انتقال منظومة الاستعمار الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة, من حروبها العسكرية التقليدية إلى ما يعرف بـ”الحروب الناعمة”, عبر استخدام هذه “الايديولوجيا الجديدة”, التي تعد أحد أبرز أسلحتها وأدواتها, والتي لجأت إلى أسلوب “الغزو الفكري” بعدما ثبت أنه أكثر دماراً وخراباً للشعوب والأخلاق والقيم والمبادئ من الحروب التقليدية, لذلك سعت تلك المنظومة للتسويق لتلك الايديولوجيا وعملت جاهدة على نشرها عبر فتحها للحدود وإغراق العالم بمفاهيم وثقافات مسمومة تلغي بها كل القيم والأخلاقيات التي تقوم وتبنى عليها الأوطان والمجتمعات, بهدف تفكيكها وإضعافها للنيل منها.
و إلى حد ما نجحت تلك الدول في تنفيذ مراميها, وقد تجلى ذلك بشكل واضح في ما سمي بـ “الربيع العربي” وما خلفه من فوضى عارمة في المنطقة والذي لا تزال ارتداداتها وتبعاتها مستمرة حتى اليوم, والهدف كان واضحاً ومعلناً وهو تغيير معالم المنطقة وتاريخها وأيديولوجياتها لتتلاءم مع عقلية ومخططات واستراتيجيات تلك الدول لتتمكن من تنفيذ أجنداتها وأهدافها الخبيثة, التي تتوافق مع مصالح الكيان الصهيوني وأهدافه في تفتيت المنطقة وإضعافها للسيطرة عليها, تلك الفوضى التي كان مخططاً لها مسبقاً وبشرت بها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة, كونداليزا رايس, وأسمته وقتها “ولادة شرق أوسط جديد”.
فقد أدركت دول الاستعمار تلك أن نشر تلك الأيديولوجيات الهدامة داخل المجتمعات سيؤدي حتماً إلى الفوضى الهدامة, وسيمكنها من بلوغ أهدافها وبأقل التكاليف, لذلك كان التركيز على هذه النقطة من خلال السيطرة على العقول وغسلها, ومن ثم تطويعها وفرض مفاهيم وقيم جديدة, لذلك كان الجهد منصبا، على التسويق لتلك الأفكار والثقافات الهجينة ونشرها تحت ذرائع وعناوين براقة ومخادعة كالحرية, والديمقراطية, وفصل الدين عن الدولة.., إلى ما هنالك من الشعارات التي تباعد بين الفرد وأسرته، وبين المجتمع ومرجعياته المقدسة, وللأسف الشديد ساعدها في تحقيق ذلك وجود بعض المبهورين بتلك الأفكار في منطقتنا, الذين يدعون العلمانية والتحرر, والذين أضحوا جزءاً من المنظومة الدعائية التي باتت تروج لهذا “النموذج” وتسوق له على أنه الحل الوحيد وطوق النجاة الوحيد للأمة للخروج من أزماتها, والارتقاء بها نحو مصاف الدول المتقدمة والمتحضرة.
إذاً “الفكر” كان هو المستهدف بالدرجة الأولى، لذلك كان السعي من قبل الدول الاستعمارية وراء تغيير القيم والمبادئ والأفكار داخل المجتمعات، لأنه عندما يتحقق ذلك يصبح الإنسان في حالة ضياع ويفقد بوصلته، ما يؤدي بالتالي إلى تصدع وانهيار الثنائيات الطبيعية للإنسان عموماً، فتسهل السيطرة عليه، ومن أجل ذلك نجد أن الدول الاستعمارية حشدت كل إمكانياتها وقواها، وأنفقت المليارات في سبيل تحقيق ذلك للوصول إلى الهدف الرئيسي الذي يسعون لتحقيقه، وهو الانهيار السياسي.
من هنا، كانت كلمة السيد الرئيس بشار الأسد، الهامة التي ألقاها خلال لقائه مع السادة العلماء في جامع العثمان، والتي أضاء من خلالها على هذه النقطة الحساسة والخطيرة واستفاض في شرحها، مبيناً أهدافها وغاياتها التدميرية على المجتمع وعلى منظومته الفكرية والعقلية، فكان تأكيد سيادته على تعزيز عوامل الاستقرار، والتحصين من الاختراقات الفكرية لمواجهة العواصف الهدامة، وأن الكثير من المسلمات التي تمثل القيم والعادات والتقاليد والمفاهيم التي يبنى عليها المجتمع لا بد من تمتينها.
خلاصة القول، إن “الليبرالية الحديثة” التي أتحفنا بها الغرب، هي شكل من أشكال الاستعمار الحديث، وأيديولوجيا خبيثة تتضمن أفكاراً معلبة أعدت في دهاليز الاستخبارات الغربية لتحقيق مآرب سياسية عدوانية، على حساب وجودنا وتاريخنا وثقافتنا وحضارتنا، لذا نحن مطالبون اليوم بالتنبه لخطورة ما يحاك لنا وأن نواجه هذا الخطر الداهم بشتى السبل لتحصين أنفسنا ومجتمعاتنا من هذا الغزو الذي يستهدف عقولنا وقيمنا وثوابتنا ومسلماتنا وأصالتنا، وتفويت الفرصة على أعدائنا المتربصين بنا.