الثورة أون لاين – فؤاد مسعد:
أضيئت الشموع خشوعاً ورُفعت الصلوات النابعة من القلب تضرعاً وابتهالاً إلى الله طلباً لشفائها عندما انتشر خبر مرضها، إلا أن الأمور سارت نحو خواتيمها المفجعة وقضت مشيئة الله أن تختطفها يد الموت فغادرت دنيانا إلى الملكوت السماوي حيث لا حزن ولا ألم ولا وجع. إنها ميادة بسيليس الصوت الملائكي الدافئ الذي تسلل منذ زمن بعيد إلى عمق أرواحنا، فقاسمتنا أفراحنا وأحزننا وآلامنا.. حلّقت بصوتها العذب الأصيل الصافي في سماء أخرى وجعلتنا نحلق معها ونعيش أغاني مُشبعة بالمعاني والمشاعر قدمتها بملء الإحساس ملامسة من خلالها عمق الروح والوجدان. كانت ترانيم صوتها تجعلنا نسمو إلى رحاب من القداسة، واليوم باتت هي قديسة في السماء تصلي من هناك لنا جميعاً ولسورية الحبيبة.
هو رحيل مُسجى في القلوب بطعم العلقم والمر، رحلت تاركة في القلوب غصة حارة وفي الأعين دمعة، حملت في قلبها وروحها فيضاً من الإنسانية والنبل والشفافية والنقاء، انتصرت للإنسان وقضاياه ولامست بما قدمته شغاف قلوب الملايين دون استئذان، هي مبدعة من الطراز الرفيع، كانت مسكونة بشغف لا ينتهي عاشته حتى في لحظات الألم والمرض، والمفارقة أنه ما زال أمامها الكثير لتقدمه فكيف نال الموت منها؟.. أحقاً للموت السطوة والقدرة على إنهاء حياة مبدع؟.. سؤال ربما تجيب عنه أعمال كُتبت بنبض الروح عن مطربة سعت جاهدة أن تعكس ثقافتها وروحها وفكرها وآلية تعاطيها مع الحياة عبر ما قدمت من إبداع، فكتبت أسطر عطائها من نور لا ينطفئ وبأحرف تحمل سطوة الخلود، إنها إبداعات يصعب على الزمن التجرؤ للنيل منها لأنها راسخة في عقول وأفئدة الكثيرين، لا بل تحولت مع الأيام إلى ذاكرة وإرث فني وفكري وجمالي وحضاري.
وفي حضورها الإنساني ذهبت إلى ما هو أبعد فكان لها مواقفها الوطنية والإنسانية التي لم تهادن فيها وعبّرت من خلالها عن صوت الكثيرين، تلك المواقف النابعة من صميم القلب ومن شغاف الروح تجاه همجية العدو كاشفة عن سلاحها في مواجهته، تاركة للأجيال إرثاً غنياً لا يُمحى (سيبقى صوتي سيف يحمله أطفالي من بعدي)، هذا ما أكدته عبر ما خطته في شهر آب عام 2006 وتم نشره حينها ضمن صفحة (فنون) في صحيفة الثورة، ومما جاء فيه:
“أعترف لكم أنني لا أملك سلاحاً ولا رصاص..
لا أعرف الحقد ولا أتقن البغض ولا الحرام..
لا أريد أن أخسر نفسي وأربح العالم..
بسلاحكم ورصاصكم وكل ما تتقنوه من حرام..
لن تهزموا أغنيتي عن الحب..
سيبقى صوتي سيفاً يحمله أطفالي من بعدي..
هذه هديتي.. حب.. خلّفه الدمار”
عرفت الملاك ميادة بسيليس منذ البداية أنها اختارت الطريق الصعب في الغناء متجنبة السائد على الساحة، فحق لها أن تكون سفيرة حقيقية للصوت النقي، وفي كل حفلة أو أمسية لها كانت تغني بصوتها الدافئ المعجون بالإحساس لكل كلمة تغنيها والنابض بالحياة المتمسك بالأصالة، ولعل القاسم المشترك بين جميع الحفلات التي أحيتها أن الحضور كان يصفق دائماً بحرارة شديدة، هي تقدم غناء مُعشّقاً بالأصالة والعاطفة والصدق وهو يعيش حالة من التفاعل ولا أروع، وقد نالت خلال مسيرتها العديد من الجوائز داخل وخارج سورية، وضمن هذا الإطار أذكر تماماً أنها في مهرجان الدار البيضاء السادس للأغنية العربية عام 2004 حصدت المركز الأول بجدارة عن أغنيتها (يا رجائي) كلمات الدكتور مانع سعيد العتيبة والحان فتحي الجراح، انتزعت الجائزة بقوة وعنفوان صوتها لأنه عادة ما كان يفوز في هذا المهرجان مطربون مغاربة، وقوبلت حينها برد فعل جماهيري صادق وعفوي فبادلها الحضور الغناء وصفق من كل قلبه.
ميادة بسيليس الروح الوقّادة بالحياة التي لا تنطفئ وإن نال الموت من الجسد، يبقى عزاؤنا برحيلك أن ما خلّفته من إبداع سيكون قصة تشهد على حياة كاملة عشتها بألمها وحزنها وتعبها وفرحها وعزتها.. لروحك الرحمة وليكن ذكرك مؤبداً.