الملحق الثقافي:أمجد سيجري :
«ماما» كلمةٌ صغيرة بعددِ حروفها، كبيرة بمدلولاتها، تشترك بلفظها اللغات الأكثر استخداماً في العالم، كالعربية والإنكليزية والفرنسية والإسبانية، ورغم احتواء أغلب اللغات على كلماتٍ أخرى تدل على هذه الكلمة، إلا أن الدارج في كلِّ تلك اللغات، استخدام اللفظ «ماما» في التعامل اليومي «mama» «mamma» و»mamá» و»ma» و»mamã» و»maa»و .»mamī»
نعم، هي كلمة «ماما» العالميَّة بامتياز، والتي جعلت بعض الباحثين يقترحون وجود لغة عالمية موحدة يتشارك فيها البشر، لكنَّ علماء الصوتيات لهم رأي آخر، فقد رأوا أن الصوت m» و b ،p « هما أول الأصوات الساكنة التي يمكن للطفل النطق بها، فهو لا يحتاج سوى لإغلاق شفتيه لإخراج هذه الأصوات، وبالتالي فإن الوحدة الصوتية للكلمة مرتبطة فينا وبنموِّنا كبشر.
في كتاب «لماذا أمي وبابا Why Mama and Papa «يلاحظ اللغوي الروسي «رومان جاكوبسون Roman Jakobson «أن الأطفال يُخرجون الأصوات «ماما أو ما» على أنها «نفخة أنفية طفيفة» أثناء عملية الرضاعة الطبيعية، وعند الضغط بالشفتين على الثدي، لذلك يرى أن هذا الصوت ma»»، ارتبط بالنسبة للأطفال «بالطعام» قبل أن يعني «الأم» كما نعتقد نحن، وهو كلام نجده في الكلمة اللاتينية mamma التي تعني «الثدي»، مثلما في الكلمات البدائية التي نتعامل بها مع الأطفال، للإشارة إلى الطعام بـ «مم» أو «نم».
اعتقد عالم النفس «كارل يونغ» بوجود ما يسمَّى النماذج الأصلية، وقد عرّفها بأنها «عبارة عن صورة أو نقش أو فكرة عامة ومتكررة، تمثل تجربة إنسانية نموذجية، بالتالي يمكن اعتبارها أنماطاً وسلوكيات، أو الصور البدائية التي تشكِّل جزءاً من النفس والأنظمة الاجتماعية لدينا»، ومن أهم النماذج الأولية التي صنّفها واعتبرها جزءاً من اللاوعي الجمعي لدى البشر، نموذج الأم، فهذا النموذج الأصلي يدعم ويفسِّر بشكلٍ واضح، الرؤية العالمية لعدد من الأساطير الخاصة بالأم، ويساعد في تفسير عالمية صور الآلهة الأمومية حول العالم، فالأمومة هي واحدة من الحقائق الإنسانية العالمية التي تتَّصف بصفاتٍ عامة مشتركة عند الجميع، كالحب والرعاية والأمان والحنان والدفء والخصوبة. لذلك نجد أن العديد من الثقافات والحضارات، تمتلك قصصاً مشتركة عن آلهة أمومية ترتبط بشخصية أنثوية، وهي إما زوجة وإما أمّ، تُعتبر نقطة بداية خلق الحياة، وتوفير الطعام والمأوى للبشرية، وتشكِّل بهذا رمزاً للإبداع، والولادة، والخصوبة، والتغذية، ودورة النمو.
كانت هذه الآلهة تسمى أيضاً «الأم العظيمة» أو «الآلهة العظيمة»، وقد هيمنت على خيال العلماء المعاصرين، فطوروا من خلال هذا المفهوم العديد من النظريات حول المجتمع البشري البدائي الزراعي، وربطوا العملية الزراعية بالإخصاب الجنسي، والزواج المقدس، حيث تمَّ ربط الأمّ بالأرض، والأمومة بالطبيعة والخصوبة والخلق والحب والعطاء، فالأرض هي الرحم الذي ينبثق عنه الوجود الطبيعي.
هكذا حكمت المرأة المجتمع في ثقافات تلك الشعوب، وكانت هي الآلهة، والأم الكبرى المسيطرة في العبادة، والربَّة المدبِّرة والمسيِّرة لشؤون المنزل في الحياة الاجتماعية. بقيت كذلك إلى أن تحوّل التبجيل إلى الذكر، وخصوصاً في الأديان السماوية التي حافظت على مفهوم الأمومة البدائي، مع الخضوع للذكورة كشرط أساسي من شروط الإيمان.
في بلاد الرافدين مثلاً، كانت المياه البدائية «نمُّو» ومن ثم «نينتو» و»إنانا» اللواتي تمَّ إعادة تعريفهما عند البابليين، على نمطِ «تيامات» و»مامي» و»عشتار».
وفي الساحل السوري، كانت كلّ من «عشيرة» و»عناة» و»عشتروت»، وفي مصر كانت «إيزيس» و»حتحور»، وفي اليونان تمَّت عبادتها بأشكال مختلفة، مثل «جيا» و»هيرا» و»ريا» و»ديميتير» و»أفروديت»، وفي روما تم تحديدها على أنها «مايا» و»تيلوس» أو «تيرا» و»سيريس» و»فينوس»، وغيرهنَّ ممن نختار أشهرهنّ:
– الآلهة «مامي»: mami الآلهة الأم، أو «نينهرساج» Ninhursag في الأساطير السومرية، ونجدها في أسطورة الخلق البابلية المعروفة «إينوما إيليش» Enuma Elish تحكي باختصار، عن انتصار الإله «مردوخ» على الآلهة «تيامات» وعن خلق الكون من جسدها المتناثر، ومن ثم خلق الإنسان من قبل الإله الحكيم «إيا»، ليتحمل هذا المخلوق الجديد عبء العمل عن الآلهة الصغار، فينادي الآلهة الأم: «مامي»، وهي الموكلة بالخلق والولادة عبر رحمها الخصب.
هنا، يذبح «أيا» الحكيم الإله «كنجو» قائد فتنة «تيامات» بعد أن يغسله ويطهره، ثمَّ تجبل الآلهة الأم «مامي» التراب بدمه وتصنع منه طين الخلق، و»أيا» الحكيم بجوارها يلقنها تعويذات الخلق، فقامت بصنع 14 ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﻴﻦ، وقسمتهم إلى مجموعتين كل مجموعة 7 قطع، سمت الأولى «ﺃﻭﻟﻴﻜﺎﺭ»، ﻓﻜﺎﻥ ﺭﺟﻞ ﺍﻟﺨﻴﺮ، وسمت الثانية «ﺯﺍﻻﻛﺎﺭ» ﻓﻜﺎنت منها ﺍﻣﺮﺃﺓ ﺍﻟﺨﻴﺮ، ﻭﺳﻤﺖ ﺍﻻﺛﻨﻴﻦ «ﻟﻮﻟﻮ»، وهو ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ الذي فتح ﻋﻴﻨﻴﻪ، ﻭﻧﻄﻖ ﺑﺄﻭﻝ ﺍﻷﺻﻮﺍﺕ: ﺏ.. ﺏ.. ﺑﺎ.. ﺑﺎ.. ﺑﺎﺑﺎ.. ﻣﺎ.. ﻣﺎ.. ﻣﺎﻣﺎ.
– عشتار: هي أشهرهن وقد ارتبطت أيضاً بالخصب، ثم الأمومة في المجتمع الزراعي السوري والعراقي، عبر خلقها الحياة والطبيعة الناتجة عن الزواج المقدس، مع الإله «تموز» الذي يقيم في عالم الأموات ستة أشهر، ليعود للحياة ويقوم من بين الأموات، وينتصر على الموت في الأشهر الستة التالية.
بسبب ارتباطها بنجمة الصباح – كوكب الزهرة، وبمفهوم الأمومة، تم ربطها برموز تدلُّ على الحياة والتجدّد والخصوبة، ومنها: العقرب، فأنثاه تحضن صغارها على ظهرها ليتغذوا منه حتى تموت. أيضاً السمكة، وتدلُّ على الرحم والخصوبة، والأفعى دلالة على الحياة والتجدد.
في مختلف أنحاء العالم، تمّ تخصيص يوم من أيام السنة كعيد للأم. يختلف تاريخ هذا العيد باختلاف الدول، فكلّ دولة تضع تاريخ هذا اليوم حسب رموزها وتراثها وحكاياها ومقدساتها.
في سورية والوطن العربي، تم اختيار 21 آذار، للاحتفال بعيد الأم، وهو يوم الانقلاب الربيعي في نصف الكرة الشمالي، حيث تكون الشمس عمودية على خط الاستواء، وبالتالي يتساوى الليل والنهار، وهذا الاختيار لم يكن عبثاً، فهو متأصِّل في التراث السوري الزراعي، فالانقلاب الربيعي هو الانتصار الفعلي للشمس على الظلام، وبالتالي انتصار الدفء على البرودة، ويتمثّل ذلك بزيادة طول النهار بالنسبة لليل.
إنه احتفال ببداية الربيع. أي بداية حياة جديدة تجهّز لقيامة إله النباتات «تموز» من عالم الأموات، حاملاً معه الخضرة والحياة للمجتمع الزراعي، فكانت الاحتفالات تبدأ من 21 آذار من تقويمنا الحالي، الموافق لـ ١ نيسان من التقويم البابلي القديم، ولذلك بقي الاحتفال بهذا اليوم في الثقافة السورية. بقي الاحتفال إلى يومنا هذا، وبمسمياتٍ أهمها:
– الأكيتو: عيد راس السنة السورية 1 نيسان.
– عيد الرابع: في الرابع من نيسان حسب التقويم الهجري.
– عيد الفصح: وهو عيد القيامة Easter والكلمة اللاتينية تحريف لـ «عشتر» وذلك في أول أحد، بعد اكتمال قمر الربيع 21 آذار، وقيامة السيد المسيح من بين الأموات، وهو ما يماثل قيامة «تموز» من عالم الأموات أيضاً.
التاريخ: الثلاثاء23-3-2021
رقم العدد :1038