الملحق الثقافي:نبوغ محمد أسعد:
الحداثة في عصرنا الراهن، راحت تحتمل وجوهاً كثيرة، منها ما هو مبتدع وليس له علاقة بالأدب والثقافة لا من بعيدٍ ولا من قريب، وهذا ما أصبح مألوفاً جداً.
لكن، عندما تنبلج الحداثة من موهبة شاعر يمتلك مكونات المعنى لكلمة شعر، يحقُّ لهذه الحداثة أن تحصل على هويتها، وهذا ما نسعى لإثباته عند الشاعر “توفيق أحمد” وإذا قرأنا له ما يلي :
كتبتك فوق صدرِ الغيم عشقاً
نديَّاً فاكتشفتك في ضميري
كتبتك نهر نور في خيالي
كأنَّ العمر أقصر من قصير
نجد في هذين البيتين، تطوراً بالغاً يتجلّى أوله في مواكبة المعنى للعصر، ويمكّن القارئ من فهم ما يريد الشاعر، والثاني وجود الصورة الجميلة التي بدت في صدر البيت الأول وصدر البيت الثاني، ثم انسياب الموضوع بشكلٍ متوازن إلى نهاية النص مع انكشاف القدرة الكافية على التعامل مع الأصالة الشعرية التي اعتمد فيها على الموسيقا.
وهذا يجيز للشاعر إذا أراد أن يعبر بمنطق آخر عن رؤاه الحياتية، وما يخلص إليه من واقع تغلب عليه المفارقات فيقول:
كمية نساء
ينتعلها بيتٌ مسوُّر بالرهبة
وعزفٌ متقن على أوتار الروح
عند عودتها إلى الماخور
في هذه الكلمات الخارجة عن مألوف القصيدة، نجد أنه يقدم ما يريده بوضوح، ولا يسعى إلى التهويم المضلل، أو إلى الارتكاز على تسميات لا قرابة بينها وبين الواقع، مثل السريالية الشعرية، فقد قدم صورة مشعة بلمعان شديد العلاقة بين العبارة وبين القارئ، لتصل الفكرة بإيجابياتها وسلبياتها دون زيف أو مراوغة أو خداع، وليكون بريئاً من الإيديولوجية الشعرية.
وثمة وثيقة مقنعة فيما يقدمه الشاعر “توفيق أحمد”، وهي وثيقة تدل على أن القصيدة الشعرية هي منتوج عاطفة، وهذه العاطفة مرهونة بأثر الثقافة التي يمتلكها الشاعر في تقديم الفكرة لتكون مقنعة، وذلك عكس ما يحاول أن يقنعنا به الآخر صاحب اللجوء إلى حداثة إنكشارية، باتت تتصدر منابرنا الثقافية، وهدفها إبعاد الأصالة، ودمغ الهوية العربية، وإزاحتها عن عرشها، ليخلو لها تمرير مالم نرد له أن يكون، أو يتسرب إلى جيلِ شبابنا لإبعاده عن هويته وتراثه المشرف، كلّ هذه الأشياء بعيدة عن الإنسان الذي يعاني جداً من مخلفات المؤامرات.
في قصيدة بعنوان “صهوة المدى” يسأل الشاعر أسيراً فلسطينياً، ويقول :
واصل نزيفكَ
كي تظل عرائش الأشجار
واقفة على تلِّ المدى
بهذه الكلمات ومثلها في مجموعة الشاعر “توفيق أحمد”، نعود للأصالة وللحضارة العربية الكامنة في ما قبل الإسلام، وقبل تغيرات التطور، فنجد أن هناك جمالاً فيما هو موزون وسمي بالشعر، وبما يتبادل به المجتمع سبل الحياة وأخذ تسميات كثيرة أهمها الخطابة، إلى أن نصل إلى أزمنة وعصور مختلفة.
وفي النتيجة، لابد من أن تكون الحداثة هي قمة الملامسة لأكبر وجع يعيشه المجتمع، فيحمل همّه ووزره الشاعر، وهذا ما نجده في قصيدة “تشكيل” التي يخاطب فيها الشاعر “توفيق أحمد” الشاعر الفلسطيني “صالح هواري” قائلاً:
واكتبْ دمشق على ضلعِ الخليل تجد
قلبين ضاعا ببالِ القدس فاتّحدا
وزِّع على الغيمِ أشجاراً لتمطرها
وإن وجدتَ جفاءً فاستعر بردا
هل من يقدم لنا حداثة أجمل من هذه الحداثة، في محاكاة شاعر سوري لشاعر فلسطيني، لتكون رسالة تحمل في معانيها الكثير،
عند “توفيق أحمد” تتجلى القصيدة في جمالياتها إلى أبعد مدى، لتكون شاهد عيان على مخلفات العصر المتردي المنساق وراء الليبرالية الحديثة، وآثارها المدمرة لمستقبل الأجيال.
التاريخ: الثلاثاء30-3-2021
رقم العدد :1039