الثورة أون لاين- د. ذوالفقار علي عبود:
خلال عقود عديدة جرى تغير كبير على السياسة السعرية في سورية، لتكون النتيجة المباشرة الانتقال من سياسة تسعير إداري لكامل المواد، إلى التسعير الإداري للمواد الأساسية فقط. وقد ركزت السياسة السعرية منذ اعتمادها في عام 1979 على الأخذ بمبادئ التكاليف الحقيقية للإنتاج والاستيراد لتحديد الأسعار مع مراعاة هوامش الربح لجميع الحلقات التي كانت تصدر تباعاً لكل نوع من أنواع السلع، وما لم يصدر له قرار لتحديد نسبة أرباح، تم تشميله بقرار عام للمواد الغذائية وغير الغذائية، وترافق ذلك مع سعر قطع واحد ودور مركزي لوزارة التموين سابقاً.
إذاً فالتسعير الإداري ليست فكرة جديدة، وهو يعني فرض سعر من قبل الحكومة للسلع والخدمات على نحو إلزامي، يأخذ بالحسبان بيانات تكاليف الإنتاج، مضافاً إليه هامش الربح.
السوق السورية لا تخضع حرفياً لقوانين السوق من عرض وطلب، وذلك نتيجة الأزمة الراهنة التي تمر بها سورية وأثرها على مختلف القطاعات، وخاصة سعر الصرف والنقل وجمود الإنتاج، وهذه العوامل الاستثنائية يجب أن تؤخذ في الحسبان لدى تطبيق فكرة التسعير الإداري، لأنها تدخل ضمن تكلفة المواد المنتجة محلياً أو المستوردة أو نصف المصنعة.
والتسعير الإداري الذي يعني فرض السعر يحتاج إلى إجراءات تراقب تنفيذه على أرض الواقع، وإلا فإنه سيكون كغيره من الإجراءات السابقة التي سعت الحكومة بواسطتها لضبط الأسعار، مثل النشرة التأشيرية الملزمة، التي لم يلتزم بها أحد، ولهذه الأسباب كان اهتمام السيد الرئيس بشار الأسد بهذه القضية واجتماعه بوزراء الإدارة المحلية والتجارة الداخلية وحماية المستهلك والعدل.
النقطة الأكثر أهمية بالنسبة للسلع التي تسعى الحكومة لضبط أسعارها إدارياً، تتمحور بأن تُسعّر السلع وهي منخفضة السعر قدر الإمكان، بحيث تكون مناسبة ومتوازنة مع دخل الطبقة الفقيرة، لا أن يفرض سعر مرتفع على السلع والمحافظة عليه، أي أن لا تتماشى الإجراءات الحكومية مع الأسعار الرائجة في الأسواق، مثلاً أن تُسعّر طبق البيض ب9000 ليرة وهو سعره الرائج في السوق، بل يجب أن يدرس التسعير الإداري المعطيات الحقيقية للتكلفة من فواتير استيراد أو إنتاج ونقل وسعر صرف، وإضافة هامش ربح قليل على السلعة، كنوع من المسؤولية الاجتماعية لقطاع الأعمال عليه أن يؤديها للمجتمع السوري في ظل الظروف الراهنة، ومن ثم تحديد السعر النهائي للسلعة، مع تحري التكاليف الحقيقية للسلع المستوردة والمنتجة، لكي لا يتعرض المستورد للغبن، وبالتالي يحدث نوعاً من العزوف عن الاستيراد، وهذا ما ينعكس على الأسواق.
ولمنع عرقلة هذا الإجراء بتذبذب سعر الصرف، وبالتالي اختلاف التكلفة بين وقت وآخر للسلعة نفسها، لا بد في البداية من تحقيق استقرار حقيقي لسعر الصرف في الأسواق، وهذا ما تم من خلال إجراءات المصرف المركزي الأخيرة.
وبعد تحقيق الاستقرار في سعر الصرف يمكن تحديد باقي عناصر التكلفة وتحديد السعر، والأهم من كل ذلك هو توفير عناصر رقابة تموينية كافية لمراقبة تطبيق هذه الأسعار على أرض الواقع، وكذلك توعية المستهلك بأهمية المبادرة للشكوى إلى الجهات الرقابية في حال وجود اختلاف في الأسعار التي حدّدتها الحكومة، لأن عدم إشاعة ثقافة الشكوى لدى المواطن يضعف من فاعلية دور الجهات الرقابية في ضبط الأسواق بمفردها، مع تأكيد أهمية تفعيل العقوبات الجزائية على المخالفين والمتلاعبين بالأسعار، وخاصة المحتكرين للسلع. لأن الضرب بيد من حديد في ظل الظروف الراهنة هو ضرورة للقضاء على ظاهرة التلاعب وتجارة الأزمات، في حين أن البقاء على قوانين الرقابة السابقة لن يجدي نفعاً لأنها قوانين لا تناسب الظروف الراهنة التي تمر بها أسواقنا وبلادنا.

ولا بد أن يترافق كل ذلك بتدخل الحكومة في طرح السلع الغذائية في مؤسساتها التدخلية وبأسعار منافسة، لخلق عنصر منافسة حقيقي بينها وبين القطاع الخاص.
كما تبرز أهمية التشاركية في صناعة القرارات الاقتصادية بين الحكومة وقطاع الأعمال، مع إيلاء أهمية كبيرة لمكافحة الفساد في بعض المفاصل الرقابية على الأسواق، وتزويد الجهاز الرقابي بعدد كبير من المراقبين التموينيين، يملكون إلماماً كافياً بمواصفات السلع وسلامتها الاستهلاكية.
تغير التسعير الإداري ما بين الخطة الخمسية الخامسة والخطة الخمسية العاشرة:
جاء من ضمن ما حددته الخطة الخمسية الخامسة في سورية كهدف من سياسات التسعير:
– تحديد أسعار المنتجات المحلية والسلع المستوردة على أساس اقتصادي (التكلفة الحقيقية).
– تحديد سعر استهلاكي نهائي لجميع المواد الأساسية على أساس الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية.
– التوسع في استخدام الصندوق المعدل للأسعار الذي ينبغي دعمه أداةً لتحقيق أكبر قدر ممكن من استقرار الأسعار، ويتحمل كل الأعباء الناجمة عن التسعير الاجتماعي.
– اتباع سياسة سعرية موحدة في جميع أنحاء القطر للمنتجات المحلية والمستوردة مع إعطاء مرونة للسلطات المحلية في تحديد أسعار المواد الموسمية المحلية.
– استخدام السعر أداة وحافزاً اقتصادياً لزيادة الإنتاج وتحقيق توزيع عادل للدخول.
– إجراء بحث دوري سنوي لتكاليف المعيشة، يتم على أساس حساب رقم قياسي لأسعار المفرق تحدد بموجبه الزيادات الدنيا في الرواتب والأجور.
لكن الخطة الخمسية العاشرة نصت من ضمن الاستراتيجية والبرامج الرئيسية للتجارة الداخلية وأهدافها:
-اتباع استراتيجية تعزيز قوى السوق والمنافسة وبيئة التجارة والاستثمار، وتحويل مؤسسات القطاع التجاري للعمل بكفاءة وربحية.
-إلغاء القوانين التي تمنع المنافسة، وإعادة توصيف مهام ومراسيم مؤسسات التجارة الداخلية.
– التركيز الكبير على مفاهيم الالتزام بالجودة، والمعايير وحماية حقوق الملكية الفكرية التي تشترطها اتفاقيات التجارة الحرة والتي كانت بصدد التوقيع في حينها (اتفاقية التجارة العربية)
فاقتصرت الإشارة إلى السياسة السعرية التدخلية بإعادة هيكلة الدعم التمويني لبعض المواد الرئيسية (سكر, رز, خبز) لاستمراره وتوزيعه على مستحقيه.
الفرق الكبير بين الخطتين هو في أساس الخطة، ففي بداية الثمانينيات كان أساس السياسة السعرية هو لكونها أداة حكومية في عملية تحفيز الإنتاج وعدالة التوزيع، أما أساس الخطة العاشرة فهو تأمين التنافسية للسوق وتحويل دور الدولة ومؤسساتها إلى دور إشرافي يقوم بالرقابة على الجودة وعلى سلامة التنافسية ويتدخل بالحد الأدنى للدعم التمويني فقط.
ما هي محددات التغير الجوهري بين الخطتين؟
جرى تغيير السياسة السعرية ضمن متغيرات عديدة، جعلت التسعير الإداري أمراً صعباً، فقد ظهرت متغيرات من أواسط الثمانينيات ترافقت مع تعدد سعر الصرف وتراجع دور القطاع العام مع تقدم في دور القطاع الخاص في الإنتاج المحلي وفي الاستيراد، ليصبح من غير الممكن أن يعتبر سعر التكلفة والإنتاج في القطاع العام هو المعيار الذي يفرض على أسعار القطاع الخاص، إضافة إلى ظهور عقبات أمام تحديد التكاليف الحقيقية نتيجة عدم إبراز فواتير حقيقية للجمارك وصعوبة تقدير النفقات المحلية من القطاع الخاص.
ولكن تبقى نقطة الفصل بين هذين الانتقالين الكبيرين هي من يمتلك العرض الأساسي في السوق (الدولة أم قوى السوق) فهو الذي يتحكم بعملية التسعير ويفرض القوانين والتشريعات التي تناسب مصالحه وهذا ما حصل في سورية، فتراجع حجم القطاع العام وحجم مؤسساته بعمليتي الإنتاج والتوزيع وتحديداً في عملية التجارة بشقيها الداخلي والخارجي، بين مرحلة التسعير الإداري ومرحلة تحكم القطاع الخاص، مقابل زيادة حجم السوق والاستيراد الخاص، هذا الاتجاه العام لتراجع الدولة وتقدم السوق هو الذي فرض تغييرات في السياسة السعرية والتشريعات والقوانين المرتبطة بها.
وهكذا يمكن المقارنة بين الخطتين الخامسة والعاشرة من خلال نسبة استحواذ القطاع الخاص على إجمالي السوق مقارنة بحصة القطاع العام:
– في عام 1976 بلغت حصة القطاع الخاص من إجمالي الاستثمار (27%) مقابل (73%) للقطاع العام.
– في عام 1985 بلغت حصة القطاع العام في الصناعات التحويلية (73,6%) بينما حصة القطاع الخاص (26,4%).
– في عام 1990 ازدادت حصة القطاع الخاص في الصناعة التحويلية لتبلغ (44%).
– في عام 1986 بلغت حصة القطاع الخاص من إجمالي الواردات (30%)، وفي عام 1994 (62%).
– بين عامي 1982 – 1992 ازدادت مستوردات القطاع الخاص بنسبة (406%)، بينما تراجعت مستوردات القطاع العام في تلك المرحلة فقط بنسبة (11%).
– بين عامي 2006- 2009 ازدادت مستوردات القطاع الخاص بنسبة (100%)، بينما تراجعت مستوردات القطاع العام بنفس الفترة بمقدار (100%).
– في عام 2009 بلغت مستوردات القطاع الخاص خمسة أضعاف مستوردات القطاع العام، وهذا كان مؤشراً على استحواذ القطاع الخاص على نحو (80%) من السوق السورية.