الملحق الثقافي:هفاف ميهوب:
في كتاب “الليبرالية وحدود العدالة”، يسعى الفيلسوف الأميركي “مايكل ج. ساندل”، للتأكّد من صحة مقولةٍ مفادها، بأن المجتمع الليبرالي، مجتمعٌ يحرص على عدم إملاءِ أيّ طريقة معيّنة في الحياة على أفراده، تاركاً لهم أكبر حريّة ممكنة في تحديد القيم التي يتبنّونها، والغايات التي يسعون إليها، غير أنه يعتبر الليبرالية المعاصرة، فرّطت في تفسيرها للجماعة، وهو بكلّ هذا، يردُّ على كتاب المفكر “جون رولز” “نظرية في العدالة”، وبقوله:
“ما هو محلّ اختلافٍ بين الليبرالية عند “رولز”، وما أذهب إليه في كتابي، لا يتعلَّق بمعرفة ما إذا كانت الحقوق مهمة، وإنما بمدى إمكانية تحديد هذه الحقوق، وتبريرها على نحوٍ لا ينطلق من تصوّر معيّن، أو مُسبق للخير”.
يسمّي ذلك “الاعتراض السوسيولوجي”، مشيراً إلى الشروط الاجتماعية التي تشكّل القيم الفردية، ومعتبراً أن الاستقلالية الفردية التي كثيراً ما تشدّقت بها الليبرالية، مجرّد وهم مضلِّل، مادامت طبيعة الإنسان اجتماعية أصلاً، أي مشروطة بطريقةٍ لا مكان فيها للذات المتعالية، القادرة على التواجد خارج المجتمع والتجربة.
ببساطة، هو يدحض “الوعد الكاذب” الذي تعدُ الليبرالية به، حين تفترض استقلالية الفرد في اختيار قيمه وغاياته، بعيداً عن الشروط الاجتماعية التي يعيش ضمنها.
وفي حديثه عن الحرّيات التي تدعو إليها الليبرالية، يتناول مثالين: “الحق في الحرية الدينية” و”الحق في حرية التعبير”، معتبراً أن تأكيد الليبراليين للحقّ الأول، ليس لاحترامهم لمحتواه، وإنما لأنه خيارٌ حرٌّ وطوعي، وأن منحهم المجال للتعبير الحاقد، الذي تُمنع فرض قيود عليه، يثبت مقدار الأذى الذي تقترفه الليبرالية.
“وضع الحريّة الدينية في نفس المستوى مع الحريّة عموماً، ينمُّ عن التطلّع الليبراليّ إلى الحياد، غير أن هذه النزعة التعميميّة، لا تخدم الحريّة الدينيّة جيداً، إذ أنها تخلطُ البحث عن الخيارات، بأداءِ الواجبات”.
يتناول الكاتب كلّ ذلك بشكلٍ عام، ليكون ما توقّف عنده عبر فصول أربعة:
العدالة والذات الأخلاقية
يطعن “ساندل” هنا، بمسألة أسبقيّة الحق المطلقة على الخير، “أي مسلّمات العقل على مسلّمات المنفعة”، مبيّناً الطابع الاعتباطي لهذه الأسبقية، ولاسيما أننا بحاجة إلى طريقة مضمونة، لربط العدالة بالمبادئ السابقة عليها.
“مجرّد اعتبار أن بعض الممارسات تصدّقها جماعة معينة، غير كافٍ لجعلها عادلة. أي أن جعل العدل وليد الاتّفاق، هو حرمان له من طابعه النقدي، حتى وإن بقي المجال مفتوحاً لتنافس التأويلات لما يفترضه تأويلٌ ما، البراهين المتّصلة بالعدالة والحقوق، لا مناص من أن تكون من الحكم القيميّ، فالليبراليون الذين يقولون بوجوبِ حياد الحقوق تجاه المذاهب الأخلاقية والدينية الجوهرية، يقعون في الخطأ ذاته الذي يقع فيه الجماعيون، ممّن يتصوّرون أن الحقوق يجب أن تقوم على القيم السائدة.
يتناول في هذا الفصل أيضاً، مفهوم الذات من حيث استقلاليّتها، وأسبقيّتها على حيازتها، من قيمٍ وغايات يجب ألا تتداخل معها، وإلا فقدت ماهيّتها.. يتناول هذا، ليختم بـ “إشكالية الفردانية ومزاعم الجماعة”، ونوجز من هذا الموضوع، ما نختصره بقوله:
“أحسن ما يمكن أن نتمنّاه لإنسانٍ ما، هو السعي المستميت في الطريق الذي اختاره، شريطة إلا يتعارض هذا السعي، مع حقوق الآخرين”.
أما خلاصة ما أراد “ساندل” قوله في هذا الفصل، فهي أن الـ “أنا”: “ليست مجرّد ذات للحيازة، بل ذات متفرّدة قبلياً، تقف دوماً على مسافةٍ ما، من المصالح التي لديها”.
الليبرالية.. ونظرية العدالة والمساواة
يرى “ساندل” في هذا الفصل، بأن من الصعب أن تُعتبر العدالة أوّلية، وتقرُّ في الوقت ذاته، بمبدأ الفرق الذي يجعل الليبرالي “رولز” لا ينكر التفاوت الاجتماعي من حيث المبدأ، شريطة أن يكون في مصلحة من هم أقلّ حظَّاً في المجتمع.
يتناول جملة من المسائل الرئيسية، مثل الحيازة والاستحقاق، سياق العدالة التوزيعية، مقابلاً بين نظرية المفكر الليبرالي “ج. رولز” القائل بـ “دولة الرفاه العام”، ونظريات غيره، لاسيما “ر. نوزيك” بنظريته المعارضة، ليكون رأيه بنظريّتي هذين المفكِّرَين:
“من الناحية العملية، تبدو لنا مواقف “رولز ونوزيك”، في هذا الشأن، متعارضة، إن الأول الليبرالي، القائل بدولة الرفاه العام، والثاني الليبرالي المحافظ، يُحدِّدان معاً أوضح البدائل التي يمكن أن توفّرها الأجندة السياسية الأميركية حالياً، على الأقل، فيما يخصّ المسائل المتّصلة بالعدالة التوزيعية، مع ذلك، فإنهما من الناحية الفلسفية، يشتركان في عدّة أمور، إذ يعرف كلّ منهما موقفه، بأنه جاء ليعترض على المذهب النفعي، باعتباره ينكر التمييز بين الأشخاص، وكلّ منهما يقترح أخلاقاً قائمة على مجموعة من الحقوق التي تضمن حرية الأفراد..”.
نظرية العقد ومسألة التبرير
يتناول “ساندل” تحت هذا العنوان، ما يعكس رؤيته للعدالة، بعد مقارنات مع مفكرين، أخذوا نظرياتهم عن المفكِّرين “جون لوك” و”روسو”، ليكون ما استنتجه بعد مقاربات عديدة تناولها:
“العدالة كإنصاف، تختلف عن نظريات العقد الاجتماعي التقليدية، في كون الارتقاء المقصود، لا يعني الدخول في مجتمع معين، أو اعتماد شكلٍ محدّد للكم، بل الموافقة على جملة من المبادئ الأخلاقية المعينة”.
يذكّر هنا، بأن علينا ألا ننسى أن هذا العقد، ما هو إلا افتراضي، أي لا تكمن صحّته في بنوده، كما العقود العادية، بل في الفكرة التي تفيد بأن هذه البنود أي مبادئ العدالة، هي التي كان سيقع عليها الاتفاق، في ظلِّ الشروط الافتراضية المطلوبة، ذلك أن مفهوم العدالة المُنصفة، يختلف عن المفهوم النفعي في تركيزه على كثرة الأفراد وتمايزهم، هذا الاختلاف يجسّده الدور الذي يؤديه العقد في مسألة التبرير.
الليبرالية وحدود العدالة
في النهاية، يشير “ساندل” في هذا الكتاب، إلى أن ما يجب القيام به، كي نجعل العدالة فضيلة أولى، هو امتلاك ما يميّزنا كبشرٍ، مبتعدين مسافة عن ظروفنا، سواء في صورة متعالية، كما هو الحال لدى “كانط” أو في صورة ذات جائرة، مثلما لدى “رولز”، وفي كلتا الحالتين، يجب أن نعتبر أنفسنا:
“مستقلّين عن المصالح والروابط التي يمكن أن تكون لنا في وقتٍ ما، غير متماهين مع أهدافنا، وقادرين دائماً، على البقاء بعيداً عنها، وذلك من أجلِ تمحيصها وتقدير قيمتها، وربما مراجعتها كلّما اقتضى الأمر..”.
باختصار، ما أراد “مايكل ج. ساندل” قوله في كتابه “الليبرالية وحدود العدالة”، بأن المجتمع الليبرالي، يقدّم نفسه على أنه لا يسعى إلى فرض نمطٍ وحيدٍ للحياة، بل يترك مواطنيه أحراراً إلى أقصى حدٍّ يمكن فيه اختيار القيم التي ترضيهم، لذلك، فإن هذا المجتمع بحاجة إلى مبادئ تتوخى العدالة، من دون فرض رؤيةٍ مسبقة للحياة الخيّرة.
أراد قول ذلك، ليكون السؤال: “هل من الممكن إيجاد مثل هذه المبادئ؟.
إنه ما أجاب عليه في الكتاب، الذي سعى عبر فصوله، لتقديم نقدٍ عميق لليبرالية في عصرنا، داعياً إلى فهم حياة الجماعة، بصورة أكبر وأوضح مما تسمح به الليبرالية.
التاريخ: الثلاثاء20-4-2021
رقم العدد :1042