الملحق الثقافي:د. عدنان عويّد *
في كتابه “الجنون في العصور الوسطى”، يتطرّق الفيلسوف الفرنسي “ميشيل فوكو” إلى حالة الجنون التي انتشرت في العصور الوسطى، في أوروبا بشكلٍ عام، وفرنسا بشكلٍ خاص، مركِّزاً على جائحةِ مرض الجذام، كمرض بيولوجيّ، وما فرضه هذا المرض من جنونٍ أو خللٍ في بنية الاستقرار الاجتماعي، لدى المصابين به أولاً، ثم لدى طريقة معالجته من قبل الدولة والكنيسة ثانياً.
حيث بيَّن في عمله الفكري هذا، كيف عاشت فرنسا جنون هذا المرض الوبائيّ، الجرثوميّ، في تلك الفترة، وكيف راحت السلطات تتصدّى له، عن طريق عزل المصابين به، أو طردهم خارج المدينة.. الأهم، كيف راح الأدباء يجسِّدون هذا “الجنون المرضيّ البيولوجيّ” الذي شكَّل آنذاك، وكما قلنا، هاجساً جنونياً لدى الجميع بشكلٍ عام، ولدى الأدباء بشكلٍ خاص، إذ بدأت تظهر أعمال أدبية تحت مسمَّياتٍ مرتبطة بهذا الجنون، مثل “سفينة المجانين” و “سفينة الحمقى” و “مشفى المجانين”.. وغير ذلك من تسميات.
نقول هنا: إذا كانت هذه هي حالة الجنون التي عاشتها فرنسا في العصور الوسطى، كما صورها “ميشيل فوكو”، فتعالوا نتابع ما حققته الثورة الصناعيّة في أوربا من جنونٍ لشعوبها.
إن من يتابع قيام الثورة الصناعيّة، وما حقّقته من نتائجٍ علميّة ساهمت في القضاء على الكثير من الأمراض الجسديّة، ومنها الجذام، يجد أن هذه الثورة أخذت تفرض أشكالاً أخرى من الجنون الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ والثقافي، بحيث ظهرت مع هذه الأشكال من الجنون، أعمال أدبية وفنية وأخلاقية وفلسفية، تضمَّنت في أعماقها كلّ هذه الأشكال المرضية، الجسديّة منها والنفسيّة، والاجتماعيّة والأخلاقيّة والسياسيّة والعقليّة.
من يتابع السياق التاريخي لتطور هذه الثورة الصناعيّة، يجد أن الجنون الذي أصاب المالك والمنتج والمستهلك في تلك الثورة، كان نتاج آليّة عملها، وآليّة عمل المشرفين على قيادتها، اقتصاديّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً، حيث نقلت معظم بنى المجتمع، إلى مرحلةٍ تتناسب في طبيعتها مع التطور العلمي/ التكنولوجي، وغيره من العلوم، وبالتالي فإن ما حقَّقته هذه الثورة الصناعية في مراحلها التاريخية السابقة واللاحقة من جنون، أصبح أشدّ قساوةً وانتشاراً، بفعل استغلال الإنسان واستلابه وتغريبه، وتحويله إلى ترسٍ في آلةِ هذه الثورة ومفرزاتها، وخاصة مع التاريخ المعاصر لهذه الثورة، وما رافقه من تطوّرٍ علميٍّ هائل، راح يتحكّم في كلّ مفاصل حياة الإنسان، الماديّة والروحيّة، الأمر الذي ساهم في ظهور أمراض (جنون ما بعد الحداثة)، ممثلة بسيادة القطب الواحد، والقوى الاجتماعيّة الحاملة لمشروع هذا القطب، وهي الطبقة الرأسماليّة الاحتكاريّة، وشركاتها المتعددة الجنسيات، ومن تلتقي مصالحه مع مصالح هذه الطبقة، على مستوى عالمنا العربي، من ساسة ورجال أعمال.
مع هذا التطور العلمي غير المنضبط أخلاقياً، والذي أصبح الربح، والربح فقط، هو الموجّه لحركته وفعاليته، دخل العالم كلّه في جنونٍ جديد، أصبحت معالم الموت والعبث والغرائزية واللامعقول، هي الأكثر حضوراً في بنية الدولة والمجتمع بشكلٍ عام، وحياة الفرد الذي تذرَّر بدوره، وفقد تماسكه البنيويّ، عقلاً وفكراً وجسداً وطموحاً، بشكلٍ خاص، حيث تحوّل إلى ذرَّة ليس له طعم أو لون أو قيمة، إلا لون وطعم وقيمة ما يحدّده قادة المشروع الرأسمالي الاحتكاري، ونظام القطب الواحد السيّئ الصيت، عبر إعلامه وتربيته وثقافته وصناعته.
جنون وطننا العربي:
إذا ما أخذنا أيضاً بجنون “فوكو” وسفن مجانينه، وسفن جنون الثورة الصناعيّة، بكل تجلِّياتها الأخلاقيّة، والنفسيّة، والعقليّة، والجسديّة، والغرائزيّة، وحاولنا أن نبحث عن تاريخِ جنوننا نحن، بكلِّ أشكاله ودلالاته، لوجدنا أن للجنونِ شكلاً آخر أكثر عمقاً وتعدّداً، فهذا الجنون مركّب منذ مئات السنين، في بنيته وتجلِّياته ودلالاته… فهو جنونُ استعمارٍ واستغلال، وفقر وجوع ومرض بيولوجيّ وقيميّ، وهو جنونٌ نفسيّ وعقليّ وفكريّ وسياسيّ، ذي نزعة استبداديّةٍ شموليّة، وهو جنونُ تخلّف اقتصاديّ واجتماعي وثقافي، عشناه تاريخياً ولم نزل، حتى تحوَّل إلى حالةٍ من (الطوفان الجنوني)، الذي أصبحت معظم سفنه، سفن مجانين، تختلف في حمولاتها، معظم أشكال ودلالات حمولات سفن جنون تاريخنا السابق عليه، فمنذ أن حملت سفينة نوح على متنها كلّ صاحٍ من الناحية العقليّة، ويمثل قيم الفضيلة، جاءت معظم حمولة سفننا اللاحقة، مليئة بالمجانين، وها هي اليوم، مع ما سمّي بثورات الخريف العربي، راحت تُلقي من على متنها، ما تبقّى من الصالحين، دون أن يبقى فيها، إلا من تضخَّمت لديه شهوة الغريزة والرذيلة، بكلِّ دلالاتها السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة…
إنها سفنُ “مجانين” القتل على الهويّة، الدينيّة والطائفيّة والحزبيّة والعرقيّة. سفنٌ مخصّصة لجنون الخيانة والتآمر مع الخارج على الوطن، والمتاجرة بالوطنيّة والقوميّة والدين والأخلاق والفضيلة، وبالعرض والمخدرات ورغيف الخبز… جنون الهروب من الوطن، والبحث عن عالمٍ آخر مشبع بطعم الغربة الروحيّة والجسديّة، والملفّع برداءِ الذلِّ وفقدان الهويّة والكرامة.. جنون التفاوت الطبقي بكلّ مرارته، جنونُ القصور الفارهة، وطعام كلابها أو قططها.
هذا هو جنون عالمنا العربي اليوم.!!. فأيّ سفينة أو أساطيل سفن، قادرة على حمل هذا الجنون؟!!. وأي رجالٍ من البشر، هؤلاء الذين يقودونها؟.. وأيّ مشافٍ قادرة على استيعاب المصابين بهذا الجنون الذي لا مثيل له، لا عند قوم نوحٍ، ولا قوم صالح، ولا قوم لوط، أو حتى عند أيّ شعبٍ من شعوب الأمم، ماضياً أو حاضراً.
* كاتب وباحث من سورية
d.owaid333d@gmail.com
التاريخ: الثلاثاء20-4-2021
رقم العدد :1042