الثورة أون لاين-علي الأحمد:
باتت الدعوة لإنكار الماضي والقفز عن منجزه الإبداعي، ” ثيمة” مفضلة لدى البعض ممن استوطن التغريب روحه وعقله، بحجة أن هذا الماضي، لم يعد قادراً على الحياة والعطاء، في عصر التكنولوجيا والوسائط المتعددة، والبرامج الذكية، وهو كما يرتأي هؤلاء “فرسان” التبعية والتقليد، زمن وتاريخ انقضى وكفى.
لقد فات هؤلاء وهم على دراية تامة، بدورهم الاتباعي، الذي ينم عن عقدة نقص مستفحلة تجاه الآخر الغربي، أن هذا الماضي الذي ينعتونه بالتحجر والجمود وعدم مواكبته العصر وايقاعه المتفجر الصاخب، قد كان حداثياً في عصره، وإلا لانزوى بعيداً وأصبح مجرد ذكرى متحفية لا أكثر أو أقل.إذاً، كيف يفسر لنا هؤلاء، خلود هذا الماضي ومنتوجه الموسيقي الراقي، وتقديمه باستمرار عبر امسيات وفعاليات متنوعة معاصرة، وهذا كما هو معلوم، يحدث في أغلب موسيقات الشعوب، وليست موسيقانا هنا استثناء. نعم يحق لهؤلاء الذهاب بعيداً عن هذا الماضي وميراثه الابداعي، فهم أصلاً لم يقرأوه قراءة معرفية وعقلانية، ولم يقرأوا الظروف التاريخية والاجتماعية التي انتجت في النهاية نهضة موسيقية باذخة الجمال، بالرغم من فقر الإمكانات التكنولوجية ووسائطها المتعددة، انتاجاً وإعلاما، وهذا يؤكد من جديد على الفرق الكبير مابين مفهومي الابداع والاتباع، فالابداع الموسيقي لايمكن له من أن يتجذر ويتكرس في الحياة الموسيقية، إذا لم يكن يعبر عن الهوية الوطنية لهذا الفن، أي كما تفهّمه جيل الرواد، حين انطلقوا بمسيرهم الحداثي تأسيساً على ماهو ناجز ومكتمل في هذه الهوية وعناصر الابداع فيها، حيث حمل راية التجديد والحداثة، شيخٌ مُعمّم يمتلك فكراً موسيقياً خلاقاً، وتوقا معرفيا لاحدود له، لتحديث بنية ومعمار هذا الفن الذي أنهكه الطرب والتطريب الموروث منذ مئات السنين وتحديداً منذ فترة الاحتلال العثماني وطقوسها المنغلقة التي كانت تأبى الحداثة والتجديد بسبب “الرجعية” الموسيقية التي تحكمت بمقادير هذا الفن بحجج واهية غير منطقية، نعم كان “لسيد درويش” ، رأيٌ آخر، حيث تفجرت موهبته من خلال عمره القصير الخاطف، وتلك السنوات السبع التي أحدثت ثورة موسيقية عربية ناهضة، تمردت على مفاهيم هذه الرجعية،وانطلقت بهذا الفن نحو حداثته المنشودة التي طال انتظارها، لتنطق هذه الموسيقى بلسان الشعب وتعبر بكل صدق والتزام عن قضاياه المصيرية من دون إدّعاء أو تكلف. وتابع المسار والمسير مريدوه من كبار الموسيقيين العرب، محمد عبد الوهاب والقصبجي، السنباطي، وزكريا أحمد ومحمد الموجي وبليغ حمدي وغيرهم من مبدعين كبار، ولاننسى بالطبع المسيرة الفنية الباذخة للرحابنة والكبيرة البهية فيروز، و مبدعون آخرون، توزعوا في البلاد العربية حملوا على عاتقهم تأصيل الحداثة الموسيقية في منتوجهم الأصيل، والحفاظ على ميراث الهوية الموسيقية من دون تقوقع وجمود، وبالتالي ابقاء تقاليد هذا الماضي نابضة وحيّة في الكتابة الموسيقية المعاصرة، مع الاستفادة المثلى من العلوم والأدوات الغربية المتقدمة، في فهم معرفي وإدراك واعٍ لروح المثاقفة والحوار الحضاري الخلاق مع هذا الآخر المغاير، أما مسلك الاتباع والتبعية والتقليد الأعمى الذي وقع فيه لاحقاً، العديد من الموسيقيين العرب، فلم ينتج على حد علمنا إلا مزيداً من الغربة الروحية والتغريب عن هذه الهوية الثقافية، من منطلق دوني وضيع، والتصاغر الى درجة كبيرة، من إنكار الذات والشخصية الثقافية وموقعها المُغيب في مسير الثقافة العالمية .إذاً، وكمانرى فإن الموسيقي العربي يقول وداعاً لهذا الماضي، حين “يقتله” بحثاً وقراءة واستبصار معرفي ، لينطلق عبر ذلك نحو مشروعه الابداعي الحداثي الذي عليه أن يحمي هذه الهوية الثقافية من براثن التقليد والتهجين واستنساخ هذا الآخر التجاري، والأمثلة على ذلك ماثلة أمام أعيننا، ولاحاجة بنا الى التذكير بها.