الثورة أون لاين – علي الأحمد:
قد تبدو الدعوة إلى إحياء الماضي الموسيقي، وكأنها حالة من النكوص والرجوع الى الخلف لفنٍ زمني بإمتياز، يتحرك دائماً نحو المستقبل انطلاقاً من الحاضر. وهذا شيء بديهي، لايحتاج منا الشرح والاستفاضة، فليس المطروح بالنسبة الى الموسيقي المعاصر، أن يكرر ويعيد أشكال الماضي الموسيقية كماهي، بل على هذا الموسيقي أن يدرك تماماً أن موسيقاه التي يكتبها هي مايعطي الماضي الموسيقي معناه وحضوره عبر قراءته قراءة معرفية بعين ناقدة تساعده على اكتشاف الحداثة في هذا الماضي وبالتالي فهم أوضح وأعمق للظروف التاريخية والاجتماعية التي أدت الى تأصيل هذه الحداثة في تراث وإرث هذا الفن الأصيل.
ويجب علينا الإقرار هنا، أن قلة من الموسيقيين العرب، حاولوا اكتشاف هذا التراث وقراءته قراءة علمية، في سبيل التحرر من “سطوته” وحضوره الطاغي في كثير من الأعمال المعاصرة، صحيح أن الكثير من الموسيقيين العرب، قد خرجوا نهائيا من هذه المعادلة واتجهوا نحو سمت آخر ومغاير في الكتابة والتأليف، إلا أن هؤلاء القلة هم في حقيقة الأمر من يتابع مسار الحداثة في موسيقانا العربية انطلاقاً من هذا الماضي نحو التأسيس الواعي لنهضة موسيقية عربية جديدة، تستفيد من تقانات العصر وتمكينها في مسارات الكتابة والممارسة، وتعيد طرح الأسئلة الملحاحة نحو علاقة التراث بالحداثة أو القديم بالمعاصرة من منطلق ثقافي بحت،بعيداً عن الممارسات المريضة المعهودة ، حيث لابد من الغوص عميقا بحثا عن الجذور في كلتا الموسيقتين الفنية العالمية والشعبية الأصيلة او مايطلق عليه “الفلكلور” ، كمافعل ويفعل أغلب المبدعين في موسيقى الشعوب ، ولهذا لابد من المغامرة العقلانية، نحو حفريات معرفية في تربة هذا التراث المهمل والمنسي الى حد الفجيعة، صحيح أن بعض المحاولات قد قامت بدايات ومنتصف القرن الماضي، في جمع وتصنيف ونشر جزء يسير من تراثنا الموسيقي، في مصر وسورية وتونس والعراق، إلا أن ذلك لم يكن إلا بمثابة خطوات أولى خجولة في هذا المضمار وبعضها كان بمجهود فردي لأعلام انتموا روحياً ووجدانياً الى هويتهم الموسيقية العربية الأصيلة، كالباحث الدكتور محمود أحمد الحفني، في مصر، والباحث مجدي العقيلي، في سورية، والباحث زكريا يوسف،في العراق والباحث سليم الحلو، في لبنان وغيرهم، هذا المسار البحثي الذي يحتاج في حقيقة الأمر، الى جهود مؤسسات ووزارات، تقدم كل الدعم بمختلف أشكاله، نحو تحقيق ونشر هذا التراث العظيم، الذي يتعرض في كثير من الأحيان الى التشويه وتقديمه بصورة استعراضية في توزيعات مفبركة تفقده خصوصيته وسماته الأصيلة، التي انبنى عليها، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعد أو تحصى.
إذاً، لابد من مراجعة نقدية، وقراءة معرفية شاملة، نحو هذا الميراث الروحي الذي هو تاريخنا وهويتنا الموسيقية بمالها من دلالات وخصوصية مائزة في مسرى الثقافة العالمية، وهذا يتطلب كما أسلفنا، جهوداً كبيرة وإرادة واعية من قبل القائمين على مقدرات هذا الفن، وبالتالي توفير الإمكانات في البدء بهذا المشروع التنويري العظيم، الذي إن تحقق نكون قد خطونا خطوة كبيرة وعظيمة في التأسيس العلمي المعرفي لهذه النهضة الموعودة، ووضع موسيقانا العربية في مكانها ومكانتها وموقعها الذي تستحقه في موسيقات العالم، يقول الباحث الدكتور “محمد عابد الجابري” في كتابه المهم ” التراث والحداثة” :التراث عندما يحقق لايبقى تراثاً – أي صورة نموذجية ممجدة – بل يصبح واقعاً متنامياً يتأسس عليه وعي جديد ينظر إلى الماضي والحاضر والمستقبل بمنظور جديد. وعندما أقول التراث أعني التراث كما انحدر إلينا تاريخياً، أي في شكله المعتم، في شكله المتراجع، التراث كما ورثناه من القرنين السابع عشر والثامن عشر، هذا التراث الذي لم نقم بعد بعملية إعادة تأسيسه، إعادة قراءته، وإعادة نقده، حتى نستطيع أن نؤسسه من جديد، ونؤسس عليه نهضتنا الفكرية.
التالي