الملحق الثقافي:د. عبد الله عيسى*
وضعتنا القدسُ هذه المرّة أيضاً أمامَ مرآةِ التاريخِ، وتركَنا نصرُها المبينُ نتفقّد ظلالَنا بين مفقودةٍ لا أثرَ لها، أو باهتةٍ أشبهَ برجْعِ صدى لنداءٍ بعيدٍ، أو مُنيرةٍ من زيتِ مشكاةٍ مُسّتْ بنارِ غضبٍ إلهيّ على المغضوبِ عليهم، ومن والاهُم..
وحدهُمُ المرابطونَ في بيتَ المقدسَ وفي أكنافَ بيتِ المقدسِ (أكنافه القريبة في فلسطين ٤٨ والضفّةِ الغربيّةِ منعاً لتأويلٍ قديمٍ سعى أصحابُ الفتاوى الجاهزةِ تسويقَهُ، بأنّه يصلُ إلى ما هو أبعدَ من حدودِ بلادِ الشامِ كلّها). وحدهمْ أنارُوا المشهدَ كلّهُ فانكشفتِ الظلالُ كلّها، وعلى رؤوسِ الأشهادِ، عاريةً خارجَ مياهِ التاريخ، فلا تصدّقوا بلاغةَ الخطباءِ، وحِنكةَ جوقةِ المُنشدينَ، وحذاقةَ مقتنصيّ الأخبارِ، والرواةَ الخارجين، بِهمّة الأفاعي تقتفي أثرَ ناياتِ السحَرةِ العصريّينَ من عتمةِ الكواليسِ إلى أضواءِ الكاميرات..
جُعِلت القدسُ كلّها، كما أرادَ المرابطونَ هناكَ، المسجدَ الأقصى..
جاؤوا من كلّ فجّ عميقٍ، وقد أغلقوا إلى حينٍ مساجدَهمْ، وكنائسَهمْ أيضاً، في القرى والمدنِ، للصلاة في شوارعِ وحواري القدس، أو على الحواجزِ الّتي أصبحتْ لحظةَ تماسٍ تتّصلُ باشتباكِ تاريخِ الفلسطينيّ كلّه، مع العهدِ الإسرائيليّ الطارئ ، حتّى يعودَ الإسرائيليّونّ كلّهمْ بقُطعانِ جنودِهمُ المدجّجينَ بآلةِ القتلِ العصريّةِ، والمستوطنونَ معهمْ، وكاميراتُهم، وأجهزتُهم الإلكترونيّةُ، عن بواباتِ الأقصى الثلاثِ، بعد أن أغلقوا الأخرياتِ (وللأقصى أربع عشرة بوابة، تفضي بمن يدخلها مدخلَ صدقٍ إلى باحةِ الفردوس)، إلى وصايا ربّ جندهم في العهد القديم.. يعودون دون رجعةٍ، ودون مغفرةٍ .
وكأنّ التاريخّ الّذي قلبَهُ الإسرائيليونَ على ظهرِهِ فاجأنا جميعاً، شعوباً وأجناساً وقبائلَ، بكاملِ أثقالهِ وأوصافهِ، ولم يستقمْ على قدميهِ إلا بانتصارِ القدسِ في السابع والعشرين من يوليو عام ألفين وسبعة عشر، حيث وصلت الأرواحُ الحناجرَ، وهي تردّد التكبيراتِ والتلبيةِ لله.
المرابطوَن هناكَ، سورةُ “الصفّ” المتقدّمةُ دفاعاً عن المقدّسِ الإسلاميّ، بترديدِ “لبّيك اللّهم” يصِلونَ أولى القبلتينَ وثالثَ الحرمينِ الشريفينِ بالحرَمِ المكيّ، ليعلنوا بلا لبْسٍ، أنّ تخلّي المسلمينَ، أو صمتَهمْ، أو غضَ بصرِهمْ، عن قضيَةِ المسجدِ الأقصى وما يجري فيه، توطئةٌ لما قدْ يمسّ مقدساتِهمْ في أيّةِ أرضٍ، فيما لو علا الإسرائيليّ هذه المرّةَ أيضاً، بعدَ علُوّهِ مرّتينِ، بما كادتْ، أو صنعتْ، يداهُ بالمسجدِ الأقصى.
وفي معجزةِ الانتصارِ القُدُسيّ هذا، ما يؤرّخُ لِسفْرٍ جديد في الروايةِ الفلسطينيّةِ في مواجهةِ الخرافةِ الإسرائيليّةِ، حيثُ يتّحدُ الجسدُ الفلسطينيّ كلّه، مسلماً ومسيحيّاً (أعتذر لاضطراري اقتناصَ بُعدٍ دينيّ للتدليلِ على التوحّد الروحي بين سُورةِ “الصفّ” ، وآيةِ القيامة)، ويعيدُ التاريخَ إلى أصلهِ، حيثُ يتوحّدُ الجسدُ الفلسطينيّ في الأرضِ المقدسّةِ، الّتي وردَ ذكرُها في آثارِ الفراعنةِ في القرنِ الثاني عشرَ قبلَ الميلاد، ضدّ غزواتِ الشعوبِ المجاورةِ والبعيدةِ، تلك اّلتي انقرضتْ أو بقيتْ على وشكِ الانقراضِ، أو العابرة ِمثل العبرانيّينَ والصليبيّين وسواهم.
كما يحيلُ صمودُ الجسدِ الفلسطينيّ في مواجهةِ مرمى نيرانِ الجنودِ الإسرائيليّين الخارجينَ من أسفارِهمْ، إلى مَتْنِ وجودِهِ الأوّلِ، المتواصلِ، المفتوحِ على الأبديّةِ، منذُ لفظةِ التكوينِ الأولى، وظهورِ المقدّسِ الإلهيّ الأوّلِ في التاريخِ، في مدينةِ السلامِ التي أسّسها ملكي صادق قبلَ ظهورِ الأديانِ، واليهوديّة ضمناً، بألفي سنة، كما يؤكّد المؤرّخونَ وعلماءُ الآثارِ والمؤمنونَ بالمقدّسِ في الأراضي المقدّسةِ.
ملكي صادق- كاهنُ الله العليُّ، كما سمّاهُ بولس الرسولُ، ويؤرّخ سِفْرُ التكوينِ بأنّ النبيّ إبراهيم حين عبر إلى أرضِ كنعانَ، أخرج ملكي صادق الخبز والخمر، وباركه باسم الربّ.
لسنا من هُواة التجوّل في أسفارِ الأساطير، فنحن نقيمُ في التاريخِ، ونطّل على المستقبلِ بِهمّةِ مَنْ يرى أحجارَ المكانِ الفلسطينيّ المقدسِ، تدلّ على آثارِ الجسدِ الفلسطينيّ وحدَه.
لكنّنا نروي لنذكُرَ ونذكّرَ: العبرانيّون الأوائلُ خلقوا أساطيرهم إذن، ليزوّروا ما لم يؤرّخْه الرواة وما لم يعثرْ عليهِ علماءُ التاريخ. ولا أثرَ لظلّ يهوديّ على حجرٍ في القدس، وقد استقدم العابرون الجددُ علماءَ الآثارِ المعاصرينَ، الأكثرَ حذاقةً بالمباضعِ والتقنيّات والحفرياتِ الأعتى حداثةً، ولم يعثروا حتّى على ظلّ ذابلٍ، أو رطنةٍ تُذكرُ لعابرٍ في القدسِ كلها.
ولأنّنا نقيمُ هنا في التاريخِ كلّه، تماماً مثلهُ – أقصد التاريخ، ونمضي معهُ إلى مستقبلِنا، ينتصرُ المكانُ والزمانُ الفلسطينيّ المقدّسُ مجدّداً.
لكنّ هذا العابرَ الجديد، الطارئ على أرضِنا المقدسّة، يواصلُ مهنةَ تزويرِ التاريخِ، بما في ذلك تهويدَ القدس لمحوِ أسمائِها وألقابِها وأوصافِها المسيحيّة والإسلاميّة على حدٍ سواء.
وطالما يداهمنا التاريخُ كلّه، قاماتٍ وظلالاً وما بينهما، فلا وقت للحنينِ إلى الممكنِ السياسيّ في لعبةِ الأممِ، أو حول طاولةِ التفاوضِ: القدسُ أمّ الأرضِ، والمسجدُ الأقصى وكنيسةُ القيامةِ وحائطُ البراق ملحُ القدس، عاصمة دولةِ فلسطينَ الأبديّة، ولا سلامَ يحوزُه المحاربُ الإسرائيليّ منّا، أو محضَ أمنٍ يغطّ به في استراحتِهِ الطارئةِ على أرضِنا، دون ذلك.
هذي قيامتُنا الجديدةُ تكتبُ العهد الفلسطيني الجديد.
* شاعر وأكاديمي فلسطيني، يقيم في موسكو
التاريخ: الثلاثاء18-5-2021
رقم العدد :1046