الملحق الثقافي:زهرة عبد الجليل الكوسى *
في البدءِ كان الوطن، وفي النهايةِ يكون الوطن، وبين البداية والنهايةِ، إنسانٌ يشعل روحه، وربّما تتوالى الأرواح، تلدُ اشتعالاً وقد لا يأتي، من يضيفُ إلى الموتِ حقيقة أكبر.
«أيوب».. لن تذوب إلا في حقولِ تدفّقي..
هو الاسم الآخر لـ «إبراهيم سلامة» في روايةٍ لم تكتمل.. تأنّى كثيراً في كتابتها، ليشهد تحوّلات بعد نهوضه من كلّ غرق، ومن كلّ العواصف التي تجتاحه بين فينةٍ وأخرى، وهو بطل الروايةِ الذي لم تهدأ ثورته، إلا بعد أن لمسَ يقين وجوده الحائر، في صفحاتِ روايته الميّتة.
افترشَ دمهُ سجادة صلاةٍ وركع، وربّما سجودٌ واحد يكفي للمغفرة، فقسوة اللحظة التي أدركها بجبروتٍ وقوّة، لم تُجبره على إطلاقِ آهٍ، ولا على التلويح بيديه غاضباً.
أتأمّله، وقد انتابني شعورٌ بالحقدِ على الواقع الذي وصلِ إليه، هو وكُثر من المعتقلين.. أتأمّله وأسأله: هذا الاشتعال أضاءَ درب من؟!..
ينظر إلى وجهي، وكأنه يتعرّف عليَّ من جديد، يحرّك كعادته فنجان القهوة ويقول:
«سأقول محاولاً استرجاعِ ذاكرتي من وراءِ قضبان معتقلات العدوّ، لم نكُن نفكّر أو نبالي، إلا بإضاءةِ الدربِ إلى فلسطين.. في نهاية الأمر، وبعد كلّ هذه السنوات من الاعتقال والتعذيب والمعاناة، يبقى رهاني على أن خسارة كمّ من الشّهداء، والكثير من الأسرى، هو نهاية صراعٍ أو مرحلة.. هكذا كانت مفاهيمي وستبقى، فلا بدَّ للإنسان الذي احتلّت أرضه بقوّة السلاح، أن يفعل شيئين معاً.. الأول، العودة إلى المكان الذي أُخرج أو طُرد منه، ولمّا كانت العودة مرافقة للاعتداءِ عليّ وقتلي، تولّد السبب الثاني، وهو حمل السلاح للدفاع عن وجودي، وإمكانية المساهمة في طردِ عدوّي، ولا أرى في المسألة ذنباً، بل أرى وجداناً مقدّساً، ومسؤولية حمل السّلاح، تنبع من مشروعيّة حقّي في البقاءِ على أرضي، وإلغاء الوجود الآخر الذي يحاول إلغاء وجودي وتاريخي.
أنا مرتاح الضمير، ولو أن مشروعي لم يكتمل، لكنّ الزمن لن يتوقّف لديّ، فهناك من سيكمله، ولابدّ أن يكتمل».
هذا هو «أيوب» المقاوم. «إبراهيم سلامة» الذي حمل أوجاعه المتنقّلة من خليةٍ إلى أخرى، ساعياً إلى حياةٍ أرادها أن تستمر.. حياةٌ عاشها وهو يحاول الوثب فوق قيودها وآلامها، قائلاً عنهما: «القيدُ والألم يصنعان معجزة خلقٍ آخر، والرابضُ خلف القضبان متوثّب ومتحفّز لخلقٍ جديد، وما الجديد إلا صنع معجزة الثبات، ومعجزة التحوّل إلى قنبلة تنفجر في وجهِ السّجان في كلّ حين».
«أيوب».. لم يكن بطل روايةٍ لم تكتمل فحسب، بل كان بطلَ حياةٍ عاندها، بشخصيّته المركّبة التي حملت كل المتناقضات، فبقدرِ ما يسابق الغيم الهاربِ من الهطول، أراه يستكينُ بصمتٍ، خلفَ سحبِ سجائره المتلاحقة. يتّكئ بنظراته على قصيدةٍ ما، أو ربّما على حلمٍ آخر، يخيطهُ برمادِ السجائر.
يبحثُ دائماً عن وطنٍ مفقود، تارةً يعانقهُ من خلالِ امرأةٍ يعتقد بأنها أرضه، وتارةً يلامسُ الفقد فيها، ويمضي إلى غياهبِ الديجورِ بحثاً عن أخرى بلا ملامح، يرسم ملامحها كما يحلو له.. يستعير من بيّارات فلسطين كروماً لوصفها.. من الزيتون لون العينين، وعلى امتداد الجسد خارطة وطن، يتسكّع فيه ثملاً حتى الجنون، متشرّداً بين أزقّته والحواري، المزدانة بالحكايات.
«أيوب».. سيّد العشّاق في زمنٍ عزّ فيه الحبّ، وجفّت القلوب من نبضها، كأن الشّوق رماه على سرير الأماني المستحيلة، يتأبّط خيبة الأمل في منفاه، بعد أن غادره المنفيّون، ابتداءً من رفاقِ الأُسرِ إلى الأصدقاء، إلى الأهلِ أيضاً.. يتألّم كسماءٍ هوت منها الأنجمُ، لتغدو ذاك الفؤاد السّاكن، يُرثي فراق حمامة السّجن، التي هامَ بها، وتمنّى لو عادَ للقياها، ليسكب نبضه في كأسها، فتشرب من وجدانه ثمّ تطير، حاملةً صداهُ إلى الجليلِ أو القدس، حيث المرأة التي يختال فخوراً بها.
«أبو يعرب» أو «إبراهيم سلامة» لم يكن كالآخرين من رفاقِ الأُسر، فهو الذي يرشّ قلبه قمحاً إليهم، في كلّ الظروف، ويسوّر جفاهم بيديه، ليزرع في مساحةِ البُعد، رياحين الصّبرِ، وورودَ دمشقيّة، لا تذبل في تعاقبِ الفصول.
رحلَ «أبو يعرب» مع الراحلين، لكنه لم يغبْ مع الغائبين.. ترك تاريخه زاهداً في الحياة، وقنديله مضاءٌ على دربِ فلسطين.
*كاتبة فلسطينية. مقيمة في دمشق
التاريخ: الثلاثاء25-5-2021
رقم العدد :1047