بين اليراعِ والبندقيّة.. «كلماتٌ تتوضّأ بتبرِ الوطن»

 الملحق الثقافي:إلهام سلطان:

شخصيّةٌ إبداعيّة استثنائيّة، تجمع بين التواضع والبساطة، القوّة والحكمة والصلابة، قراءة الواقعِ بشكلٍ دقيق، واستشراف المستقبل.
تجمع بين كلّ هذا، وتملك ذاكرة وقّادة حيّة، كالنهر المتدفّق، حاملةً بين طيّاتها كلّ تفاصيل الماضي وحيثياته، وكأنّها تعيش لحظتها، وتسردها بطريقةٍ ممتعة وشيّقة.
إنه الأديب والمقاتل «محمد إبراهيم العلي». تعرفت عليه في مكتب الباحث الدكتور «رزق الياس».. تأمّلته بذهولٍ سببه ما رأيته من فيضه المعرفيّ. شعرت وكأنني أقف أمام التاريخ كاملاً، أسمع حكاياه العتيقة، يرويها أديبٌ متمرّس في جعل صفحاتِ هذا التاريخ، مسكونة بالحقيقة التي قد يستدعيها إليك، أو ربما يأخذك إليها.
لقد كان لي الشرف، في متابعة مراحل كتابته للجزءِ الرابع من كتابه «حياتي والإعدام». ذلك أن هذه المتابعة، جعلتني أشعر بأنني أتأمل في عمقِ بحرٍ من المعرفة، أنهل منه قليلاً، وأرى في قعره الكثير الكثير.
تأمُّلي هذا، جعلني أتعرّف على فترةٍ هامّةٍ من تاريخ سوريّة، بل وأعظم وأهمّ رجالاتها.
«محمد ابراهيم العلي» الإنسان، المناضل، الكاتب، الباحث، الروائيّ، الشاعر، السوريّ، بقي حتى اللحظات الأخيرة من حياته، يُشعل بجمرِ أصابعه، وضوء حبر إبداعه، صرخة تزّين جيد الصباحاتِ بوردِ الوطن.
بين شهقة النور الأولى في قرية «أم حارتين» بحماه، منطقة الغاب، ورجفة زنابقه المتعبة في خريف العمر، سيرة مناضلٍ عشق أرضه حتى الثمالة، فرسم من بوحِ روحه، حكايا وطن هو القلبُ المعلّق على هامةِ قاسيون، يدٌ تقبضُ على الزناد، وأخرى تداعب القلم لتكتب سيرة وطن.
السيرة المجيدة للشعوب، عبارة عن بناءِ كلِّ حجرٍ فيه، يستندُ إلى الحجرِ الذي قبله، ويعدّ أساساً للحجرِ الذي بعده.. هذا ما عاشه.. أحداث ١٩٥٦ وأحداث ١٩٦٧، ودوره بينهما كبيرٌ جداً، ولاسيما في حربِ تشرين التحريريّة، التي مُنح فيها، الوسام الحربيّ من الدرجة الأولى.
مُنح أيضاً عدّة أوسمة، منها وسام صداقة الشعوب، من مجلس السوفييت الأعلى، وفي أحداث لبنان 2006 وغيرها من الأحداث التي كان له فيها، الدور المميز والاستثنائيّ.
لقد كانت حياته وبطولاته، جزءاً من تاريخِ سوريّة العريق.. سورية التي قاومت عبر تاريخها، كلّ أنواع الاستعمارِ وما استكانت، بل بقيت كطائر الفينيق الذي ينهض دوماً من رماده.
«محمد إبراهيم العلي» حياة كاملة وزاخرة بالإبداع. القصة، الرواية، الشّعر، والبحث، ومداد البندقية الذي جعل أحرفه تتوضّأ بتبرِ الوطن، وتدثّر بين خافقيه قداسة البخور…
معظم رواياته وقصصه، هي أحداث عاشها، وأخذ أدقّ تفاصيلها من القرية، والأرض، والفلاح والإقطاعي، وخيام البدو الرُحَّل، والسجن، وحكم الإعدام الذي صدر بحقه في عهد الانفصال، وعاش لحظاته، بقلبٍ قويّ لا يهاب الموت.
دخل الزنزانة وقبع بين جدرانها، وخلف قضبانها كان هناك ما يُدمي روحه. وجوده مع خائنٍ يعمل لصالحِ عدوّ وطنه.
إذا دخلنا إلى عالمه الروائيّ، وتبحّرنا فيه، نجد أنفسنا أمام تحفٍ فنيّة من نبضِ الواقع الذي وثَّق لفتراتٍ هامة من تاريخ سورية، ففي مجموعته «شوك الدردار» جميع فصول الرواية، وكلّ عناصرها، واقعيّة وتوصله إلى الغاية التي يريدها، وهو ما أعطاه دفعاً كبيراً، بعكسِ رواياتِ ألف ليلةٍ وليلة، المستوحاة من الخيال، لذلك نجد هناك تقارباً كبيراً، بين القيمة الفنيّة لنتاج «أبي الندى» وقيمة نتاج «ألف ليلة وليلة» التي غايتها التسلية والإمتاع، أما قصصه ورواياته، فهي تعرض للإنسان واقعه، ليستطيع تجنّب الانزلاق إلى الهاوية.
وفي روايته «نجمة الصبح» حيث أحداث ومجريات حرب تشرين 1973، يتمتّع أبطاله بروحٍ ومعنوياتٍ عالية، فالحياة مستمرّة رغم كلّ الصعوبات التي يمرون بها.
يصور «العلي» هؤلاء الأبطال، أقوياءَ ويكرسون جلّ حياتهم من أجل مصالح شعبهم، ولعلّ أجمل صفحات الرواية، تلك التي تصوّر زحف القوات السوريّة عند أقدام جبل الشيخ، والذي جعل أحد أبطال الرواية، على قناعةٍ بأن «التاريخ سيكتب صفحة بطوليّة جديدة في تاريخنا».
أيضاً، وفي رواية «الطغيان»، كرّس قلمه للحديث عن الحقبة التي كانت حركة التحرّر الوطني فيها، لاتزال في طورِ النمو في سوريّة، ساعياً إلى القول، بأنه لا يمكن لأيّ قوّة إيقاف هذه المسيرة، لأنها تحتوي فئات الشعب العريضة والمختلفة، وأبطال الرواية يرزحون تحت نير البكوات والمستعمرين الفرنسييّن الظالمين. يتحدّث فيها أيضاً، عن الطبقة البورجوازية التي تنهشُ لقمة عيش الطبقة الفقيرة، والفلاح المسكين، وعن المحاولات الصهيونيّة الرامية إلى طرد العرب من فلسطين، أرضهم الأم، عارضاً الأساليب الدنيئة التي تستخدمها من أجل ذلك، وما ترتكبه من الجرائم الفظيعة ضد الإنسانية، لتحقيق أهدافها.
وفي روايته «الذئاب» يجسّد سيرته الذاتية، ويتحدث عن بطولات أسطوريّة للجيش العربيّ السوريّ.. بطولاتٌ تتوهج عزّة وعنفواناً، وتكتبُ بحبرِ الدماء، أهزوجة النصرِ على ربا قاسيون.
كتب الكثير الكثير وأبدع، فمن رواية «المرابي» إلى رواية «الطغيان» التي يتحدّث فيها عن سدِّ الفرات العظيم، وما له من أثرٍ في ازدهار مدينة الثورة منطقه الفرات.. أيضاً، «القناديل» و»نجمة الصبح» و»حياتي والإعدام» بأجزائها الأربعة، وهي تمثّل تاريخ سوريّة النضاليّ والثقافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والإنسانيّ.
له أيضاً، الدولاب، شوك الدردار، الصيد تحت الجليد، وغير ذلك مما استمرّ في كتابته، حتى النبضِ الأخير من حياته.
يرحل، ولا يرحل المبدعون، فهم باقون في ضمائرِ من أناروا فكرهم وحياتهم، فها هي أعماله لاتزال بيننا ولنا، بعد أن أهدى مكتبته الضخمة التي تحوي أمهات الكتب، وهي ثروته الحقيقية التي جمعها طوال سنوات عمره.. أهداها إلى مكتبة الأسد الوطنية، ومن أجلِ أن تنهل الأجيال القادمة، علماً ومعرفةً ووعياً.
نعم، لا يرحل المبدعون، فقد غاب «محمد إبراهيم العلي» جسداً، لكنه بقي قنديلاً معلقاً في ذاكرة وطنه، يضيء كـ «نجمة الصبحِ» كلّ فجرٍ، ويشمخ كـ «الدردار»، ناسجاً من الضوءِ ما يُبقيه، المحاربُ فكراً ويداً، لكلّ أنواع «الطغيان».

التاريخ: الثلاثاء25-5-2021

رقم العدد :1047

 

آخر الأخبار
عودة ضخ مياه الشرب في مخيم اليرموك  وقوف ممنوع وورشات إصلاح تعرقل حركة المارة في زقاق الجن  ربوة قاسيون.. أيقونة الحضور في الزمن الغابر    في تحول مفصلي .. واشنطن ترفع العقوبات عن سوريا فرصة تاريخية أمام سوريا  لإعادة الإعمار والانفتاح واشنطن ترفع العقوبات رسمياً عن سوريا والرئيس "الشرع" وهذه دلالاتها وصول أول باخرة قمح إلى مرفأ طرطوس تجارة المياه المربحة...  بعد يوم واحد على السماح 115 طلباً لتراخيص إنشاء معامل فلترة وتعبئة مياه معد... تشديد الرقابة على صناعة المرطبات في "حسياء "فريد المذهان"... "قيصر" يستحق التكريم القبض على مجموعة خارجة عن القانون في درعا قسم النسائية في مستشفى الجولان بالخدمة جيلٌ كُسرت طفولته.. عمالة الأطفال في سوريا بعد الحرب "سينما من أجل السّلام".. مبادرة الوفاء لحلب جيلٌ كُسرت طفولته.. عمالة الأطفال في سوريا بعد الحرب بعد أن عدت إلى دمشق.. درعا.. منح مالية لمعتقلي الثورة المحررين إزالة التعديات على شبكة المياه في  قدسيا بعد 14 عاماً من الغياب ..فعاليات متنوعة لمهرجان التسوق في الزبداني تركت ارتياحاً في الأوساط الصناعية.. اتفاقيات سورية تركية تدعم الشبكة الكهربائية آفاق جديدة للدعم الطبي.. سوريا والنرويج نحو شراكة مستدامة