الملحق الثقافي:د. عدنان عويّد *
الحداثة في سياقها العام، تحديثُ وتجديدُ ما يمكن تحديثه أو تجديده من قيمٍ ماديّة قديمة، في بنية الدولة والمجتمع، بشقيّ هذه القيم، الماديّ بشكلٍ عام، والفكريّة أو القيميّة بشكلٍ خاص، مبيِّنة – أي الحداثة – مرحلة التطور التي طبعت مجتمعاً من المجتمعات في المرحلة التاريخية المعيوشة. وهي برأينا هنا، ليست صيغة واحدة معطاء إلى الأبد، تُحدد سماتها وخصائصها بفترةٍ زمنيةٍ محددة، من حيث جوهر التحديث العام، على اعتبار التجديد والتطوّر (التحديث) فعلاً تاريخيّاً، ابتدأ أساساً كما نرى، مع بداية علاقة الإنسان مع الطبيعة، من حيث قدرته على استخدام ما يُتاح له من مفرداتها، وتسخيرها لمصلحته، ثم ما تحقّقه هذه العلاقة من تطوّرٍ وتجديد، في قوى ووسائل الإنتاج، ومدى تأثيرها على خلقِ علاقاتٍ إنتاجيّة واجتماعيّة جديدة، في بنية المجتمع والدولة ذاتيهما.
أما تعريف الحداثة بالنسبة لأوروبا، كما بيّنها علماء الاجتماع والمهتمّين بشؤون حياة الإنسان عموماً، فيمكن تعريفها على أنّها معطيات التطور والتجديد التي تمَّت في الفترة التاريخيّة التي امتدّت، منذ قيام الحركة الأنسيّة في إيطاليا في القرن الرابع عشر، مروراً بتقدّم الثورة الصناعيّة والتكنولوجيّة وعصر التنوير في القرن الثامن عشر، حتى نهاية الحرب العالميّة الثانية، وقد اشتغل عليها فكريّاً بعمومِ أنساقها، الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد، والفيلسوف الألماني كارل ماركس، والفيلسوف الألماني فريدريك نتشه، والعالم البريطاني تشارلز داروين، وغيرهم الكثير أمثال سبنسر، ودافيد هيوم، وفواتير، ومنتسيكيو، وكلّ فلاسفة عصر التنوير.. الخ. وعبر فكر هؤلاء، أُعيد النظر في الكثير من المعتقدات القديمة التي كانت سائدة على كافة المستويات، بخاصة الفكريّة منها، وحاولوا تغييرها.
سمات وخصائص الحداثة الأوروبيّة:
– تركيزها على الحريّة الفرديّة، واعتبار هذه الحريّة هي المنطلق الأساس للإبداع، وتحدي كلّ ما هو تقليدي في بنية المجتمع، ويَحول دون تحقيق جوهر الإنسان والعودة به إلى مرجعيّته الإنسانيّة.
– تعمل على بناء مجتمع مصالح متبادلة بين أفراد أحرار، وبالتالي لا بد من القضاء على قيمِ المجتمع التقليديّة، القائمة على التراتبيّة الاجتماعيّة والثروة والدماء الزرقاء.
– تعتبرُ الحواس والحدس والعقل، هي المراجع الأساسيّة للمعرفة، وبالتالي تدعو إلى ضرورة إضعاف النظرات اللاهوتيّة أو إقصائها، من مضمار المعرفة. أي إنزال معرفة تشكيل العالم وتسييره من السماء إلى الأرض، وحصرها في عالم الإنسان وقدراته، بغضِّ النظر هنا عن المناهج الماديّة والمثاليّة المتّبعة في تحقيق هذه المعرفة، إن كانت تأمليّة ذاتية، أو حتميّة ميكانيكيّة، أو سيكولوجيّة (علم النفس الفردي)، أو بسيكولوجيّة (علم النفس الاجتماعي)، أو رؤية منهجيّة وضعيّة، أو بنيويّة أو ماديّة تاريخيّة وغيرها.
– تعمل على تحطيم أسس الحياة السياسيّة القائمة على النبالة والدين، ممثّلة بسلطاتِ الملك والكنيسة ورجال الإقطاع، والدعوة إلى الدولة المدنيّة والقانون والمؤسسات وتداول السلطة، واعتبار الشعب مصدر السلطات.
– إقصاء أو إضعاف دور الدين في الحياة الاجتماعيّة (العامة – الطائفة والمذهب)، وتركيزها على عالم الفرد الروحيّ، تجنّباً لما أنتجه هذا الدين تاريخياً، من صراعات دينيّة بين الشعوب والدول، راح ضحيتها ملايين من البشر، بسبب اعتناق هذا المذهب أو ذاك، كاثوليكي أو بروتستانتي أو أرثوذوكسي، وغيرها.
– على المستوى الوطني والقومي، تسعى دائماً، ومن قبل الحامل الاجتماعي لها، أي الطبقة الرأسماليّة الوطنيّة، لبناء الدولة الوطنيّة والقضاء على دول المدن التي خلفها الإقطاع، وقد كان الشعار الميركانتيلي الذائع الصيت (دعه يعمل دعه يمر)، هو القاعدة الاقتصاديّة التي أُسّست عليها الدول الوطنيّة، اقتصاديّاً وسياسيّاً فيما بعد.
– على المستوى العالمي، أو مستوى الحقل الكونيّ، سعت الطبقة الرأسماليّة الأوروبيّة، بعد أن تحوّلت إلى طبقةٍ إمبرياليّة، إلى التوسّع خارج حدودها الوطنيّة والقوميّة، وإلى نمذجة العالم الخاضع لسيطرتها وفقاً لمصالحها، من حيث تحويل المستعمرات إلى حزامٍ ناقلٍ لهذه المصالح، في مجاليّ توريد المواد الأوليّة واستهلاكها معاً، ثم السعي إلى تسويق ثقافتها ولغتها والكثير من قيمها الماديّة والروحيّة، عند مجتمعات هذه الدول المستعمرة، حتى تكون صورتها هي، وهنا يتحقّق اغتصاب الروح لشعوب هذه الدول المستعمرة، وتنسيها ذاكرتها وتاريخها وثقافتها، من خلال عولمة العقل الإنساني الاستهلاكيّ، أي نمذجة حياة الشعوب وعقولها. وهذا ما وجدناه في سياسة الفرنسة التي اتُّبعت في الجزائر على سيبل المثال للحصر، من قبل الامبرياليّة الفرنسيّة.
إذاً، عملت الحداثة الأوربيّة على تغيير العالم، وجعل عقلانيتها (الأداتيّة)،(1) مركزاً لعقلانيّة العالم (المركزيّة الأوروبيّة). وعليه نقول: إن التحديث في صيغته الأوروبيّة وفق هذه المعطيات، يعني تعميمِ خطّ أو أنموذج التطوّر الأوروبيّ على الآخر، وهو خطٌّ أحادي، أو نسقُ تطوُّرٍ يختزل التاريخ العالميّ بالتجربة الأوروبيّة، ويعلي من شأن حاضرها الرأسماليّ، ومن عقلانيتها الأداتيّة، وأنانيّتها واستغلالها لشعوبها وشعوب العالم، إلى أعلى مستوى يمكن أن تصل إليه، مقدمة تجربتها الحداثويّة إلى كلّ المجتمعات العالميّة للأخذ بها وفق مفهومها للنهضة والتقدم، ولا نبالغ إذا قلنا: إن الخط العام لسير العلاقات الرأسماليّة في صيغها الاحتكاريّة اليوم، ودعوتها لتطبيق النظام العالمي الجديد بصيغته الأميركيّة، هو تأكيدٌ على توجّهاتها الشموليّة العالميّة، وتأكيدٌ أيضاً، على انتقال الحداثة الأوروبية إلى ما بعد الحداثة.. إلى عالم النهايات في التاريخ والفنِّ والدين والأخلاق.
*كاتب وباحث من سوريّة
d.owaid333d@gmail.com
(1) – يُنظر للعقلانيّة الأداتيّة، كنوع من العقلانية التي تركز على أفضل وسيلة لتحقيق غاية ما من خلال استخدام المهارات العقلية، بغض النظر عن قيمة هذه الغاية الأخلاقيّة أو القيميّة. أي هي عقلانيّة لا تختلف عن ترس في عالم تسيير آليّة النظام الرأسمالي الاحتكاري الذي يهمه الربح والربح فقط.
التاريخ: الثلاثاء25-5-2021
رقم العدد :1047